أن نتألم.. أو لا نتألم؟

ناطق بصمت وصاخب بسكون.. يشكو منه جل المرضى، وبالرغم من ذلك فهو أقل الأعراض المرضية فهماً في الطب وعلم النفس، وصفه المنفلوطي بأنه الينبوع الذي تتفجر منه جميع عواطف الخير والإحسان في الأرض، وأنه الصلة الكبرى بين أفراد المجتمع الإنساني، وهو روحها وجوهرها، فمن حُرِمَه حُرِم كل فضيلة من فضائل النفس وكل مكرمة من مكرماتها، وأصبح بالصخرة الصلدة أشبه منه بالإنسان الناطق، وقال عنه ليو توليستوي “إن الإنسان في وقت اللذة يطفو على سطح الحياة وأما في ساعة الألم فيدخل في العمق“.


تعرف منظمة الصحة العالمية الألم بأنه تجربة حسية وعاطفية بغيضة متعلقة بضرر نسيجي فعلي أو كامن أو موصوف بمصطلحات تمثل ضرراً كهذا. الألم عادة هو إحساس أو شعور سلبي بالمعاناة وبُعد السعادة، وقد يكون مادياً كالصداع والمغص أو معنوياً كالحزن والقلق بحسب العوامل التي تسببه.


وللألم وظيفة مهمة جداً، وهي التنبيه بوجود مرض معين أو اختلال التوازن الطبيعي بالجسم، فهو بذلك يمثل صرخة استغاثة لتنبيه الإنسان وحمايته والحفاظ على توازن أجهزة جسمه المختلفة، ويساعد الألم على تحديد مكان الضرر الذي يحدث لأنسجة الجسم بهدف الإعلان عنه وكشفه وإيقاف الضرر والألم معاً.


مثال ذلك الصداع، فقد يكون نتيجة نقص سوائل أو نقص غذاء أو نوم أو زيادة الضغط والتوتر، وهو ينبّه الإنسان إلى ضرورة تعويض النقص وإعادة التوازن، أو إزالة عوامل التوتر لحماية الدماغ من الضرر المحتمل، والألم الذي تعاني منه عند لمس شيء ساخن ينبهك إلى إبعاد يدك عن مصدر الحرارة، والألم الذي تشعر به عند التواء القدم يمنعك من تحريكها، وبالتالي يحد من تفاقم الضرر.


إن أفظع مرض يمكن أن يُصاب به الإنسان هو ألا يتألم وليس أن يتألم، فانعدام الإحساس بالألم هو مرض قائم بذاته يصاب به العديد من الناس، فيموتون بسرعة بسبب غياب الألم المحذر الموقظ المنبه، وهذا هو أحد أسباب فتك السرطان، لأنه يبدأ وينتشر ولا يعلن عن نفسه ولا يؤلم إلا متأخراً عندما يكون قد انتشر في الجسم، أما الالتهاب فإنه يوقظ ويوجع ليُعالَج ويزول، إلا إذا أهمل ودخل مرحلة مزمنة.


كنا نعتقد سابقاً أن الألم ببساطة هو شعور ينتج نتيجة انتقال إشارات كهروكيميائية أو ما يعرف بـ”السيالات العصبية” من الأعصاب الموجودة في النسيج أو العضو المصاب إلى الدماغ مروراً بالنخاع الشوكي، ولكن بيولوجية الألم أعقد من ذلك بكثير.
في معظم الأحيان يبدأ الإحساس بالألم بسبب ضرر أصاب نسيجاً من أنسجة الجسم، وينتقل الإحساس بالألم إلى العمود الفقري ومنه إلى الدماغ من خلال ما يشبه البوابات التي تسمح لهذه الإشارات بالمرور أو تمنعها. وعندما تصل الإشارات إلى منطقة المهاد في الدماغ توجه إلى مناطق مختلفة لتترجم، جزء يذهب إلى قشرة الدماغ الذي يحدد نوع الألم ومن أين أتى وهل يحتفظ الدماغ في أرشيفه بتجربة سابقة مشابهة لهذا النوع من الألم أم لا، وجزء من هذه الإشارات يذهب إلى منطقة العواطف والمشاعر في الدماغ، وهذا الذي يجعل بعض الآلام تبكي صاحبها، وغيرها لا يبكي وإن كان أشد حدة وقسوة، وكذلك قد ترتفع دقات القلب لحدث دون غيره من شخص لآخر بناء على نوع العواطف والمشاعر التي يوقظها هذا الحدث وهذا النوع من الألم في هذا الإنسان بعينه.


إنك إذا قمت بالضغط على جسم حاد بعد نجاحك في تحقيق حلم مهم في حياتك فلن يكون إحساسك بالألم كما لو دست على الجسم نفسه أثناء أو بعد شجار مع صديق لك. وإذا كانت آخر مرة دست فيها على الجسم الحاد أدى إلى التهاب خطير فسيجعل الدماغ إحساسك بالألم مضاعفاً، مقارنة بما لو لم يحدث لك أي مضاعفات في المرة السابقة وذلك من أجل حمايتك، بل وكذلك ستسهم توقعاتك الإيجابية أو السلبية وتوترك أو ثقتك بسرعة الشفاء على تسارع الشفاء أو تأخره.


بل ويستطيع الدماغ أن يأمر إشارات الألم أن تتوقف عن إرسال إشاراتها، وهذا ما أثبت منذ أعوام طويلة، ونُشر في دراسة الألم في الورقة الشهيرة التي وصفت ظاهرة الألم في جرحى الحرب العالمية الثانية، وكيف أن إحساسهم بآلام جروحهم البالغة الإصابة تضاءل إلى حد الاختفاء بدون دواء عند وصول الرعاية الطبية لهم وأصبحوا في مأمن بعيداً عن أرض القتال. وبذلك فإننا نشعر فقط بما يسمح لنا دماغنا أن نشعر به.


نشرت المجلة الطبية العالمية في عام 1995 حالة طبية موثقة تبين عظيم أثر الدماغ في تحديد نوع الألم وشدته حين دخل الطوارئ عامل بناء يبلغ من العمر 29 سنة في حالة يرثى لها من الألم الشديد نتيجة سقوطه على مسمار حاد طوله 15 سم واختراقه لحذائه السميك من أسفل القدم. وفي الطوارئ لم يستجب لأقوى أنواع الأدوية المسكنة للألم، وأخيراً استطاع الطبيب إخراج المسمار من أسفل حذائه بصعوبة نتيجة الآلام المبرحة التي كان يعاني منها المريض المسكين، وبعد خلع الحذاء كانت المفاجأة أن المسمار مر بين الإصبع الأكبر والثاني دون إحداث أي جرح، وفي اللحظة التي أدرك العامل فيها أن المسمار لم يسبب له جرحاً، زال الألم مباشرة.. إنه عمل العقل الذي حدد الألم بناء على المعطيات التي قدمت إليه وتوفرت له، وعندما تغيرت المعطيات توقف الدماغ عن إرسال إشارات الألم وزال الألم تماماً.
يقول عالم وباحث الأعصاب الشهير فيلايانور سوبرامانيان رامتشاندران، إن الألم وجهة نظر.. نعم إنه وجهة نظر، واعتقاد الإنسان بحالته الصحية أكثر من مجرد رد فعل لضرر جسدي أو أذى أو جرح، فهناك تداخلات عديدة ومعقدة بين موضع الألم ومراكز الألم في الدماغ، بل ومراكز الدماغ المختلفة كالنظر واللمس والعواطف والحالة النفسية.
ومن الضروري أن يعالج الألم في مراحله الأولى وألا يهمل، لأن إهمال الألم واستمراره فترة طويلة يحوله إلى ألم مزمن، وذلك بإحداث تغييرات مهمة في الأعصاب، وكذلك طريقة إدراك ومعالجة إشارات الألم في الدماغ، حيث تصبح خلايا الدماغ التي تنتج الإحساس بالألم أكثر فعالية وحساسية في الإدراك وإنتاج الألم والتعبير عنه، والتي تظهر جلياً بالرنين المغناطيسي الوظيفي.


وفي مقال قادم إن شاء الله سنستعرض أهم طرق ووسائل التحكم بالألم، وكيف نواجه تحدي أن نحول المؤلم إلى ملهم، وأن يصبح الألم مطيتنا لنغوص في أعماق النفس والحياة، وأن نكون جديرين بمعاناتنا؟

 

 

 لقراءة المقالة من صحيفة الوطن الرجاء الضغظ على الرابط أدناه :

http://www.alwatan.com.sa/Articles/Detail.aspx?ArticleId=17493