أَنُرضِي الناس بسخط الله *قبل مقص الرقيب

كان الرجل الصالح من بني اسرائيل (حبيب بن اسرائيل النجار) كعادته يتعبّد ربّه في غاره عندما سمع بخبر الرسل وتكذيب الناس لهم، وكان هذا الرجل الصالح رجلاً بكل ما يجب أن تحمله الكلمة من معانِ الشجاعة والإقدام والصدق في القول والعمل وطُهر الظاهر والباطن، هذا رجلٌ يحمل همّ أمته وندَبَ نَفسَهُ لنُصرة الحق فخرج يسعى (يركض مهرولاً) خشية أن يُحرمَ أو يفوته عزُّ موقفٍ يُنصَرُ فيه الله ورسله.

 

وشقّ صفوف قومه حتى يصل إلى نصرة رسل الله، وهو يعلم ما سيصيبه منهم من تعذيبٍ وتنكيلٍ بل ربما القتل والاستشهاد “وَجاءَ مِنْ أَقْصَا الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعى قالَ يا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلينَ * اتَّبِعُوا مَنْ لا يَسْئَلُكُمْ أَجْراً وَهُمْ مُهْتَدُون.”

 

وسألوه هل هو ممن يُصَدِّق الرسول ويؤمن بالله فأجابهم “وَماليَ لا أَعْبُدُ الّذي فَطَرَني وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ * ءَأَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ آلِهَةً إِنْ يُرِدْنِ الرَّحْمنُ بِضُرٍّ لا تُغْنِ عَنّي شَفاعَتُهُمْ شَيْئاً وَلا يُنْقِذُون.”

 

بل وأكدّ وقال “إِنّي إِذاً لَفِي ضَلالٍ مُبينٍ * إِنّي آمَنْتُ بِرَبّكُمْ فَاسْمَعُون”، فوثبوا عليه وثبةَ رجلٍ واحدٍ وقلوبهم مليئة بالحقد والكُره والبغضاء، فتناولوه ضرباً ورجماً بل وحرقوه ووطئوه بأقدامهم وتفنّنوا في تعذيبه حتى زهقت روحه، وما من أحد يدفع عنه وهم في سكراتهم يمثّلون بجثته حتى بعد موته، بينما جُندُ الله في السّماء ينتظرونه شوقاً ليحتفوا به حفاوةً تليقُ بمقامه في الملأ الأعلى كشهيد شاهد على قومه.

 

فلمّا خرجت روحه وارتفعت إلى ربّها تلقّتها الملائكة تقوده لجنة الخلد “قِيلَ ادْخُلِ الجَنَّةَ”، فلمّا رأى ما هو فيه من المسرّة والنعيم، وما قومه فيه من سخفٍ وضلالٍ وعقلٍ سقيم، لا يزالون في سكرتهم منشغلين بالتمثيل بجسدِهِ قال “يا لَيْتَ قَوْمي يَعْلَمُونَ * بِما غَفَرَ لي رَبّي وَجَعَلَني مِنَ الْمُكْرَمينَ.”

 

ولم تكد روحه الطاهرة تدخل جنتها، وجَسَدُهُ على الأرض مُلقى والقوم يُنفِّسون حقدهم وكُرههم بالتّمثيل به حتى حق عليهم عذاب الله، فلم يبعث الله لهم جنوداً يقاتلهم بها، بل أهلكهم بصيحة واحدة “وَما أَنْزَلْنا عَلى قَوْمِهِ مِنْ بَعْدِهِ مِنْ جُنْدٍ مِنَ السَّماءِ وَما كُنّا مُنْزِلينَ.”

 

عن عبد الله بن مسعود قال “غَضِبَ اللهُ له -يعنـي لهذا الـمؤمن- لاستضعافهم إياه غَضبةً لـم تُبقِ من القوم شيئاً”، ويقول مفسراً للآية السابقة “أي ما كاثرناهم بـالـجموع .. أي الأمر أيسر علـينا من ذلك.”

فأهلك الله ذلك الملك وأهل أنطاكية، فبادوا عن بكرة أبيهم عن وجه الأرض ولم يغادر منهم أحداً أو يبق لهم باقية “إِنْ كانَتْ إِلاّ صَيْحَةً واحِدَةً فَإِذا هُمْ خامِدُونَ” أي هالكون.”

 

ولهذا الفعل الذي قام به هذا الرجل الصادق تكلّم الخالق سبحانه على لسانه وخلَّدَهُ في كتابه العظيم في الأرض وفي السماء إلى قيام يوم الدين، وبعمله هذا نجى من العذاب المقيم. أين هذه النهاية من عاقبة عابد آخر .. ذلك الذي يحدثنا عنه رسول رب العالمين في الحديث الذي رُوي عن سفيان بن عيينه قال “بلغني أن مَلَكاً أُمِرَ أن يخسف بقرية، فقال: يا رب، فيها فلان العابد فأوحى الله إليه أن به فابدأ، فإنه لم يتمعر وجهه فيَّ ساعة قط.”

 

أما إهلاك الله قوماً بأكملهم من أجل روحٍ طاهرةٍ واحدةٍ أُزهقت بغير حق فما هو على الله بعزيز ولا غريب، فهذا ابن عبد الله بن عمرو رضي الله عنه يروي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح الذي يرويه الترمذي قوله “لزوال الدنيا أهون عند الله من قتل رجل مسلم”، وفي حديث آخر “قتل المؤمن أعظم عند الله من زوال الدنيا.”

 

إنّ الله قادرٌ على نُصرةِ عبادهِ الصّالحين في طرفة عينٍ وبغير أسباب، فهو سبحانه المسبِّبُ خالقُ الأسباب .. إذا أراد شيئاً فإنّما يقول له “كن” .. فيكون.

 

نخلص مما سبق إلى الحقيقة التالية:

إن الحكمة من خلقِ الموتِ والحياة إنّما هو الابتلاء، كما يقول الله تعالى “الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلا”، فهو اختيارك .. تحيا وتموت في سبيله أو لغيره تحيا وتموت، والدنيا بعد ذلك إلى زوال لقوله “وإنا لجاعلون ما عليها صعيدا جُرُزا”، ولا يبقى إلا نتاج الابتلاء من أعمال تشهد لأصحابها وبها يُساقون إما إلى جنة وإما إلى نار.

 

والآن بعد عام كامل مضى على الثورة في بلاد الشام، دعونا نفحص سوياً الموقف لنحدّد من في هذا الابتلاء فَشِلَ ومن فاز .. عامٌ مضى لشعبٍ مُناضلٍ يُطالبُ بحقّه الذي كَفِله الله له، شعبٌ حُرٌ أَبَى أن يرضخ لطاغيةٍ ولكلّ وسائل القهر والتّنكيل والتّعذيب والقتل الجماعي، وشعاراته “الموت ولا المذلّة”، “أنتم تقاتلون قوماً عشقوا الشهادة”، “لو استعنت بالجن والإنس لتبقى .. بإذن الله لن تبقى .. لأننا استعنّا بالله على إزالتك)، وأطفال يحملون شعارات تقول “اللهم إليك نشكو ضعف قوتنا وقلة حيلتنا.”

وإنّا نحسبهم بصمودهم وجهادهم هم الفائزون، بل بصنيعهم هذا يذكّروننا بالحديث الشريف الذي رواه أبو أمامة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم “لا تزال طائفةٌ من أمتي على الحق ظاهرين، لعدوِّهم قاهرين، لا يضرهم من خَالَفَهُم -وفي رواية “ومن خذلهم”– ولا ما أصابهم من لأواء حتى يأتيهم أمر الله وهم كذلك. قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَأَيْنَ هُمْ؟ قَالَ: “بِبَيْتِ الْمَقْدِس وَأَكْنَافِ بَيْتِ الْمَقْدِسِ”، يعني المناطق المجاورة لبيت المقدس وتشمل بلاد الشام كلّها، وفي رواية أخرى إضافة “وهم كالإناء بين الأَكَلة.”

 

أما حَالُنا نحن، فقد رضخنا للمشيئة الدّولية وحق الفيتو فتقاعسنا عن إيقاف المذابح الجماعية لشعب بأسره، صغيره وكبيره، طفله وشيخه، بما طالبوا من حق قد ضمنه الله لهم.

 

هل خشينا من تبعات مخالفة السّيادة الدولية، ونسينا أو تَنَاسَينا حديث رسول الله الذي روته أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها “من أرضى الناس بسخط الله سخط الله عليه وأسخط عليه الناس، ومن أرضى الله بسخط الناس رضي الله عنه وأرضى عنه الناس” رواه الترمذي، أم هل نسينا أن وطنية العقيدة تجعل كل بقعة فيها مسلم ينطق بالشهادة وطناً لنا، له حرمته وقداسته، وتجعل كل المسلمين في هذه الأقطار الجغرافية أهلنا وإخواننا، أوكأننا نسينا حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم “مَثلُ المؤمنين في تَوَادّهم وتراحُمهم وتعاطُفهم مثلُ الجسد، إِذا اشتكى منه عضو تَدَاعَى له سائرُ الجسد بالسَّهَرِ والحُمِّى.” فانشغلنا عنهم ولم نستشعر آلامهم ومعاناتهم.

 

إن نصر الله لبلاد الشام وأهلها آتٍ لا محالة، وإنّ الله لا يحتاجُنا لتحقيق هذا النصر، وإنما نحن الذين في أمس الحاجة إلى موجبات نصره بأن لا نفشل في الابتلاء والاختبار الذي بين أيدينا، وألا نجلب على أنفسنا سخط ربنا بتقاعسنا وتخاذلنا عن نصرة إخواننا المنصورين بإذن الله.

 

إن فقه الأولويات يُحتِّم علينا أن نتعامل مع قضية ثورة سوريا كأولويّة بأن نسعى لنُصرتها، وأن يكون لنا في سعي شهيدِ ياسين لنصرة رسل الله العبرة، فيكون لنا في المنافحة والمدافعة دوراً ولو بدعاءٍ موصولٍ أو بكلمةِ حقٍّ تنصرهم، كلٌ على منبره الذي يسّره الله له، أو بالإنفاق السّخي ممّا نُحِب .. لا من فَضل أموالنا “لن تنالوا البر حتى تُنفِقُوا مما تحبون”، لعلنا بذلك نُعذرُ عند ربّنا، أو يُكتَبُ لنا مَعهم أجر الجهاد إلى “أن يقضي الله أمراً كان مفعولاً” أو شرف النصر “ألا إنّ نصر الله قريب.”

 

لقراءة المقالة من صحيفة الوطن الرجاء الضغظ على الرابط أدناه

http://www.alwatan.com.sa/Articles/Detail.aspx?ArticleID=10110