إلى متى وأمة “اقرأ”.. لا تقرأ؟

 

كانت معجزة القرآن أعظم وأسرع وأغرب طفرة حضارية في تاريخ الإنسانية، فقد استطاع الخطاب القرآني أن ينتقل بإنسان الجاهلية البسيط إلى مركز العالم وسيده في أقل من ثلاثة عقود، وسر هذا الإعجاز ومفتاحه، كان همسة في الغار اختارها الله لتكون أول ما يوحى وأول ما يفرض إنها كلمة “اقرأ”.. شعار الحضارة الجديدة التي تشمل القراءة التقليدية والقراءة الشاملة للقرآن والكون والطبيعة التاريخ والخليقة، وحققت المعجزة على الواقع بتطبيق شعار هذه الحضارة “اقرأ” واندثرت هذه الحضارة بمخالفته، ولتصبح أمة اقرأ أمة لا تقرأ.

 

في تقرير التنمية الثقافية الذي أصدرته مؤسسة الفكر العربي في دورتها العاشرة لمؤتمر “فكر” في دبي، بينت أن متوسط قراءة الفرد الأوروبي يبلغ نحو 200 ساعة سنويا، بينما الفرد العربي لا يتعدى 6 دقائق سنويا وهو في تناقص، وهذه نسبة مخيفة بل وكارثية. وفي إحصاءات منظمة اليونيسكو، إن متوسط القراءة الحرة للطفل العربي لا يتجاوز كذلك الدقائق في السنة مقابل 12،000 دقيقة للطفل في العالم الغربي.

 

وفي دراسة دولية أخيرة حول معدلات القراءة في العالم، أوضحت أن معدل قراءة المواطن العربي سنويا ربع صفحة، بينما معدل قراءة الأميركي 11 كتابا، ومعدل كل من البريطاني والألماني سبعة كتب، بمعنى أن كل 20 مواطنا عربيا يقرؤون ما يعادل كتابا واحدا في السنة، في حين يقرأ البريطاني أو الألماني 7 كتب، أي ما يعادل 140 عربيا، ويقرأ كل أميركي 11 كتابا في السنة، أي ما يعادل ما يقرؤه 220 عربيا في السنة.

 

وفي دراسات وإحصاءات أخرى وجد أن أقل من 5% من المواطنين العرب يقرؤون بانتظام، فمن بين 365 مليون مواطن عربي “30% أطفال، 30% أميون، 20% لا يقرؤون قط، 15% بشكل متقطع وليسوا حريصين على اقتناء الكتب، فقط 5% هم المواطنون المواظبون على القراءة”.

 

ويصدر العالم العربي نحو 2000 كتاب سنويا، في حين تصدر أميركا وحدها أكثر من 85،000 كتاب سنويا، والكتاب الذي يباع منه بضعة آلاف في العالم العربي يعدّ إنجازا كبيرا، في حين تصل مبيعات الكتب الغربية إلى الملايين.

 

في تقرير التنمية في العالم العربي، أوضح أن عدد الكتب المترجمة في العالم العربي مجتمعة يعادل خمس ما تترجمه دولة صغيرة مثل اليونان “عدد سكانها أقل من 20 مليون نسمة”، ولذلك تجد أن دور النشر العربي مجتمعة تستهلك من الورق ما تستهلكه دار نشر فرنسية واحدة. وهناك كتاب يصدر لكل 12،000 مواطن عربي، بينما يصدر كتاب لكل 500 مواطن إنجليزي، أي أن معدل الإصدار في العالم العربي لا يتجاوز 4% من معدل الإصدار في إنجلترا.

 

أما الكتب الإلكترونية فالواقع أشد ألما، فتصل مبيعات بعض الكتب في الغرب إلى أكثر من أربعين ألف نسخة في أقل من يوم واحد وتصل المبيعات للملايين، أما في العالم العربي فلا تكاد المبيعات تذكر.

والمصيبة الكبرى في العالم العربي أن الأمية ما زالت منتشرة، في حين أنها اختفت تماما في اليابان منذ القرن التاسع عشر. تقرير منظمة اليونيسيف يبين أن 70 مليون عربي ما زالوا أميين وثلثيهم من الأطفال والنساء..

 

ما الذي حدث لنا؟

فلنبدأ من السنوات الأولى لحياة الطفل العربي؛ لأنها ستحدد علاقته بالكتاب مدى الحياة، فقد بين تقرير مؤتمر “تطور الدماغ” في جامعة شيكاجو أن دماغ الطفل الرضيع لا يحدد ولا يقرر كيفية تطوره وراثيا أو جنينيا، وإنما من خلال التجارب المبكرة التي يكون لها الأثر الحاسم والفاصل في هذا التكوين.

 

تبين تقنية تصوير الدماغ الحديثة أنه وحرفيا في خلال ثوان فقط من بداية قراءة كتاب لطفلك الصغير، تندفع آلاف من خلايا الدماغ للعمل، فبعض هذه الخلايا تنشط وتقوى، وأخرى جديدة تتكون لتغير من شكل الدماغ مدى الحياة. كل هذا فقط عندما تفتح كتابا لطفلك لتقرأ، وهذه هي الفترة الخطيرة الحرجة الحاسمة الهامة في تغيير الدماغ، وتؤثر في حياة الإنسان مدى الحياة، بناء على بحث نشرته الهيئة الوطنية العلمية لدراسة تطور الطفل. أي أن جودة الشبكة العصبية التي تربط بين أجزاء الدماغ تتكون في هذه الفترة لتصبح دعائم القدرة المستقبلية على التعلم، وكذلك فهي توجه السلوك ومدى الصحة النفسية للإنسان مدى الحياة.وقد بينت الدراسات الحديثة أن الطفل يكون 80% من قيمه وسلوكه وولائه وما يخافه ويخشاه في السنوات السبع الأولى من حياته لتبقى معه طوال ما تبقى من عمره، وبينت كذلك أن القراءة للمتعة تجعل الطفل أكثر فصاحة ووضوحا ولديه قدرة أعلى على الفهم والتفكير المنطقي.

 

كما أن القراءة للطفل في مرحلة الطفولة وما قبل المدرسة تبني علاقة وطيدة بين الطفل ووالديه، وتبني الثقة عند الطفل، وتبني الإحساس بالتعاطف والقدرة على التحليل والتركيز، كما تصبح القراءة عند الطفل شيئا محببا وليس مفروضا، وتكون محببة أكثر من الألعاب الإلكترونية وأفلام الفيديو. كذلك بينت دراسات أن الأطفال الذين حُثوا على القراءة وقُرئ لهم في فترة ما قبل الدراسة حققوا تفوقا أكاديميا على نظرائهم استمر حتى المرحلة الجامعية، وهو كذلك يربي الحماسة والشغف ويقوي الذاكرة وحسن الإنصات عند الطفل.

 

كلنا نسعى لتربية أبنائنا ليصبحوا أذكياء ناجحين ونختار لهم أحسن المدارس والأساتذة، ولكننا قد نغفل أن أهم عامل لتحقيق ما نريد هو أن نجعل الكتاب والقراءة جزءا لا يتجزأ من كيانهم وأسلوب حياتهم.

إن مؤسساتنا مسؤولة عن غياب المكتبات العامة التي نراها في الغرب في كل حي، حيث غدت المكتبة هناك محور التواصل والمعرفة، مع تشجيع شراء الكتب بأسعار زهيدة، وإقامة مسابقات تشجيع القراءة وتواصل المدارس مع مكتبات الحي، ووضع معونات مالية لكل طالب مخصصة لشراء الكتب، مثال على ذلك فرنسا، فهي تعطي لكل طالب ما يعادل شراء 20 كتابا سنويا في شكل كوبونات.

 

إذا أردنا حقا أن ننهض من جديد، فليس من سبيل إلا أن نعود لأول كلمة نزل بها الوحي، همسة الغار وفاتحة الوحي وسر قدرة القرآن على إخراج المعجزة من الإنسان، الكلمة التي بنت أعظم حضارة شعارها كان كلمة استحقت أن تكون أولى كلمات السماء للأرض في أول لقاء بين جبريل وسيد الخلق عليه الصلاة والسلام. إنها كلمة اقرأ، فإن لم نطع أول أمر، ولم نطبق أول فرض نزل به القرآن، فهل لنهضة هذه الأمة من أمل؟

 

 

 

 

 

لقراءة المقالة من صحيفة الوطن الرجاء الضغظ على الرابط أدناه :

http://www.alwatan.com.sa/Articles/Detail.aspx?ArticleID=14000