احتراف الفساد

كتبت في الثاني والعشرين من شهر يونيو عام 2010 مقالاً بعنوان (الفساد.. سرطان المجتمعات) فصلت فيه أوجه الشبه بين السرطان الذي يصيب الإنسان في جسده والفساد الذي يصيب المجتمعات. وأوضحت آنذاك أنه كما أن للسرطان مصدرا رئيسا منه ما ينتشر إلى أطراف الجسد ويتخلل إلى أعضائه الحيوية، فكذلك الفساد له بؤرة ومصدر رئيسي منه ينتشر ويسري إلى باقي جسد المجتمع، وكما أن السرطان يسرق الدم المُحمّل بالأكسجين والحياة ويستنزف الجسد ويسخر طاقاته ليضاعف من سرعة نمو السرطان وانتشاره، فكذلك الفساد (سرطان المجتمع) يفعل.

 

وكما أن السرطان لا يُقضى عليه إلا إذا أُزيل مصدره الرئيسي (Primary Source) وأن أي محاولة لاستئصال مواقع الانتشار منه في أطراف الجسد وترك المصدر الرئيسي لن يقي الجسد كثيراً، فالمصدر الرئيسي للسرطان سيعوض ذلك بتسارع انتشار السرطان في مواقع جديدة من أجزاء الجسم، فكذلك الحال في محاولات استئصال سرطان المجتمعات (الفساد).

 

وكما أن معالجة الجسد من السرطان من أصعب وأشق المهام، لما يحتاج إليه المعالج من دراسة مستفيضة لمناطق الانتشار والأعضاء المتأثرة ومدى الانتشار فيها والضرر المترتب عليها، ثم اتخاذ أنجح طرق العلاج، مع الحرص على عدم استئصال أي عضو حيوي فعّال والحذر من ترك بؤر سرطانية صغيرة قد لا ترى بالعين، فكذلك الحال في معالجة سرطان المجتمعات (الفساد) فإنه يستوجب كل هذا بل وأكثر وإنها حقاً لأصعب وأشق من معالجة سرطان الجسد.

 

وبعدها بعامين بتاريخ الـ 11 من شهر فبراير عام 2012 كتبت مقالاً آخر بعنوان (أصبح الفساد ثقافة مجتمعنا)، وقد وصلت آنذاك إلى قناعة هي أن الفساد في بلادنا الغالية تجاه المال العام قد تعدى كونه فساداً يجب استئصاله إلى أن أصبح ثقافة مجتمع تجاه المال العام.. واستندت في تعريفي للثقافة لبعض ما كتبه مالك بن نبي في كتبه (شروط النهضة)، (مشكلة الأفكار في العالم الإسلامي) و(بين الرشاد والتيه).. فعرفت الثقافة بأنها الصفات الخلقية والقيم الاجتماعية التي يتلقاها الفرد منذ ولادته كرأس مال أولي في الوسط الذي ولد فيه، فهي بذلك المحيط الذي يشكل فيه الفرد طباعه وشخصيته، وبذلك فإن الثقافة لا تعد علماً يتعلمه الإنسان، بل هي محيط يحيط به وإطار يتحرك داخله يغذي الحضارة في أحشائه، فهي الوسط الذي تتكون فيه جميع خصائص المجتمع المتحضر وتتشكل فيه كل جزئية من جزئياته تبعاً للغاية العليا التي رسمها المجتمع لنفسه.

 

فالثقافة هي تلك الكتلة نفسها التي تتضمن مهارات متجانسة وتقاليد متكاملة وأذواق متناسبة وعواطف متشابهة وعبقريات متقاربة، وكل ما يعطي الحضارة سمتها الخاص بها. لذا فإن الثقافة ليست علماً خاصاً لطبقة من الشعب دون طبقة أخرى، بل هي دستور تتطلبه الحياة العامة بجميع ما فيها من ضروب التفكير والتنوع الاجتماعي، فهي إطار حياة أو جسر يعبره المجتمع إلى الرقي والتمدن.. وعلى جانبي الجسر حاجز يحفظ بعض أفراده من السقوط من فوق الجسر إلى الهاوية.

 

وهذا الإطار يجمع بين راعي الغنم والعالم أو المزارع والتاجر أو الطالب والمدرس أو المريض والطبيب أو الفقير والثري بل وبين الجاهل والمتعلم .. وبذلك يتضح لنا مفهوم الثقافة.

 

وأكدت في مقالي آنذاك أن الفساد في مجتمعنا تعدى كونه فساداً مستشرياً إلى أن أصبح ثقافة مجتمع تجاه المال العام، وأننا لو حاسبنا كل من تساهل أو فرّط في المال العام بغض النظر عن صغره أو بساطة ما فرّط فيه – من مبدأ تغليظ حرمة المال العام – فلا أشك أننا سننتهي بأن يُحاكِم نصف الشعب نصفه الآخر.

 

واليوم أقول إن الفساد في بلادنا الغالية تعدى كونه سرطاناً أو ثقافة مجتمع ليصبح (احترافاً)..
نعم.. أصبح احترافاً يُمارس بل ويُدرس من قبل أفراد ومجموعات منظمة.. والذي يجعله احترافاً هو قدرة محترفي الفساد على القيام بالعمل الفاسد المرة تلو الأخرى بطريقة احترافية وكأنه علم شيطاني ابتدعوه ليعينهم على تحقيق الغاية من فسادهم بل والتحسين المستمر لوسائلهم في وجه الجهود المبذولة لمكافحته، ومن ثم تعظيم النتائج التي يرجونها من فسادهم.
ولعله من علامات احتراف الفساد ما يلي:

– صعوبة كشف المفسدين بالرغم من انتشار فسادهم وتورطهم من رأسهم إلى أخمص أقدامهم.
– ممارستهم الفساد بكل ثقة دون خوف أو تردد.
– قدرتهم على الإفلات من قبضة القانون بشرائهم كل الضمائر التي يمكن أن تُشترى، وجعل من لا يُشترى يدور حول نفسه، فلا يجد الدليل الدامغ الذي يدين فسادهم، بل ويذهبون إلى أبعد من ذلك، فهم قادرون على تلفيق التهم للأبرياء وزجهم في السجون في حالة إصرارهم على أن ينالوا منهم أو يكشفوا فسادهم.

 

إنهم عصبة أو قل عصابة.. في مصالحهم مشتركون وفي فسادهم متورطون، ويدركون أنه إذا سقط الواحد منهم فإنه سيجر معه آخرين، ولذلك أصبحوا في مجموعات منظمة يعملون كما تعمل المافيا وهم أشبه ما يكونون بأساطنة مدرسة احتراف الفساد؛ يعملون منذ عقود حتى أصبحوا جزءاً من التاريخ الأسوأ لفساد المجتمعات، وهم الذين يصنعون الحاضر الأليم الذي نتذوق مرارته ونعاني الأمرين من تبعاته.

 

محاربة هؤلاء والانتصار عليهم لن يكون سهلاً ويحتاج أكثر بكثير من هيئة مكافحة فساد أو اجتهادات فردية من أقلام حُرة وطنية..

 

ولمن أراد أن يقرأ عن تجربة ناجحة في محاربة الفساد بحق على مستوى دولة.. فليعد لقراءة مقالاتي عن مكافحة الفساد في سنغافورة في صفحتي الإلكترونية على الرابط : (http://www.walidfitaihi.com)

 

 

 

  لقراءة المقالة من صحيفة الوطن الرجاء الضغظ على الرابط أدناه :

http://www.alwatan.com.sa/Articles/Detail.aspx?ArticleId=10938