الأزمة العالمية في كوادر التمريض

يعتبر التمريض من أهم عناصر نجاح أي نظام صحي في أي دولة من دول العالم، وتعنى الدول بهذا العنصر عناية خاصة لهذا السبب، ويعاني عالمنا اليوم من فقر شديد في كوادر التمريض لتصبح المسألة أشبه ما تكون بأزمة عالمية، وقد اجتهدت كثير من الدول في وضع خطط مستقبلية لمواجهة هذا التحدي وتوجهت إلى الاعتماد على كوادرها البشرية وتشجيع منسوبيها للإلتحاق بهذه المهنة الشريفة العظيمة التي كرمَها الإسلام ورفع من شأنها بتكريم رسول الله صلى الله عليه وسلم لأول من مارس هذه المهنة في صدر الإسلام مثل الصحابيتين الجليلتين رُفيدة الأنصارية وأميمة بنت قيس الغفارية وغيرهما كثير.

 

وقد كتبت مقالاً بتاريخ 14 ديسمبر 2004م، بعنوان “إليكن يا حفيدات رفيدة الأنصارية” وتحدثت فيه  عن مواقف عظيمة خالدة لممرضات مسلمات منهن رفيدة بنت كعب الأسلميه الأنصارية والتي تُعد الممرضة الأولى في الإسلام، وهي إحدى الصحابيات اللواتي اشتركن في غزوة الخندق في السنة الخامسة للهجرة وقد اتخذت السيدة رفيدة خيمةً لها في المسجد النبوي الشريف تداوي فيها الجرحى وتشرف على أحوالهم، ولما جُرح الصحابي الجليل سعد بن معاذ رضي الله عنه في المعركة أمر رسول الله بتحويله إلى خيمة رفيدة في المسجد فقال صلى الله عليه وسلم “اجعلوه في خيمة رفيدة حتى أعوده من قريب”، وكانت خيمة رفيدة بمثابة أول خيمة طبية نُصبت في الإسلام، أو قل إنها أول مستشفى ميداني مُتنقل أو على أقل تقدير أول محطة تضميد متقدمة في ساحة المعركة، وقد أعطى رسول الله المتفوقات من الممرضات قلادة شرف تقديراً لجهودهن التي بذلنها في الحرب، ولِما كُن يقُمن به من معالجة الجراح والعناية بالمرضى وجبر العظام وإيقاف الدماء النازفة وإسعاف الجرحى ومواساتهم والاهتمام بهم.

 

وتحدثت في مقالي هذا عن المائة عام الخالية وحذرت من عودة النظرة الجاهلية القديمة عند كثير من الآباء والأمهات إلى مهنة التمريض حتى اصبحت العوائل تَضِنُّ ببناتهن أن يلتحقن بهذه المهنة الإنسانية العظيمة اقتداءً بمن قلدهن خير الأنام وخاتم الأنبياء قلائد وأوسمة بقيت على صدورهن وصدور هذه الأمة شاهداً على مكانة هذه المهنة في الإسلام وداحضاً ومصححاً لتلك المفاهيم الجاهلية البالية.

 

وتحدثت أيضاً عن تقدم مهنة التمريض في الغرب وفتح آلاف المعاهد والكليات بينما تخلفت هذه المهنة في كثير من بلاد الإسلام حتى صار قطر واحد من العالم الإسلامي مثل بلدنا الغالي يعمل فيه أكثر من 100 ألف ممرض وممرضة قادمين من خارج البلاد، وسيتضاعف الاحتياج في هذا العقد نتيجة لتسارع نسبة النمو في البلاد، وتعجب معي أن السعودة لا تزال أقل من اثنين في المائة في هذه المهنة بالذات.

 

وسؤالي في هذا المقال هو هل هناك خطة استراتيجية شاملة متكاملة لمواجهة هذا التحدي؟.. وأين هي؟..

 

إننا في أمس الحاجة لخطة شاملة متكاملة تشترك فيها ستة وزارات هي وزارة الإعلام، ووزارة التعليم، ووزارة العمل والعمال، ووزارة الصحة، ووزارة الداخلية، ووزارة المالية بالإضافة إلى صندوق تنمية الموارد البشرية. وسأقدم مثالاً واحداً لدور كل وزارة على سبيل التمثيل لا الحصر إذ تبقى هناك أدوار أوسع وأكبر مما أقدمه هنا.

 

فمثلاً وزارة الإعلام لابد أن يكون لها دور فعَال في تصحيح نظرة المجتمع لهذه المهنة العظيمة النبيلة الإنسانية وإعادتها لمكانتها الصحيحة وتشجيع الجيل القادم للإلتحاق بهذه المهنة والاعتزاز بها. أين هي المسلسلات التلفزيونية والأفلام التي تعيد للتمريض مكانته وتعلي من شأن هذه المهنة العظيمة؟.. ولا يخفى علينا جميعاً قوة الإعلام في إحداث مثل هذه التغيرات فبدلاً من مسلسلات تافهة مدبلجة تنجح في تمجيد شخصيات سخيفة وتصنع صورة ممسوخة للرجل والمرأة فلابد أن تهتم وزارة إعلامنا بإخراج مسلسلات هادفة ترفع من شأن التمريض وترسم في مخيلة كل فتاة صورة مشرفة لهذه المهنة العظيمة النبيلة.

 

أما التعليم فلابد أن يكون هناك خطة مدروسة لصنع تصور جذاب لهذه المهنة ورفع شأنها من خلال إدراج قصص تاريخية ونماذج واقعية لرموز في التمريض في مناهج تعليمنا، وإبراز الجزء الإنساني لهذه المهنة النبيلة في برامجنا الدراسية، وتسليط الضوء على الأجر العظيم والثواب الجزيل للقائمين بها.

 

ومثال لدور وزارة العمل والعمال وضع نظام مرن خاص لمهنة التمريض يناسب نوعية الملتحقين بها .. فأغلبهن من الفتيات في مقتبل عمرهن وزهرة شبابهن وهن في فترة الزواج وبداية الإنجاب فلابد من مراعاة حاجتهن ومساعدتهن للتوفيق بين عملهن وحياتهن الخاصة.

 

أما وزارة الصحة فبعض دورها هو الإشراف على جودة برامج معاهد وكليات التمريض، ووضع الحوافز والروادع بناءً على معايير محددة لجودة التعليم الطبي وان تهدف لإخراج كوادر تنافس عالمياً ولا تكون عبئاً جديداً على المجتمع بتردي مستوى المتخرجات من معاهد التمريض بكلياتنا الوطنية.

 

ومثال لدور وزارة المالية وصندوق الموارد البشرية قد يكون زيادة دعم البرامج ذات الجودة العالية لتخريج كوادر التمريض بالتنسيق مع وزارة الصحة، وكذلك وضع حوافز مادية للمعاهد والكليات التي تخرج طلبة ذوى جودة عالية بناءً على اختباراتٍ دولية من جهات عالمية مختصة تشرف عليها وزارة الصحة.

 

أما وزارة الداخلية فإن هناك عشرات الآلاف من المولودين في بلادنا الغالية من أصول وعروق مختلفة عاشوا طوال حياتهم في بلادنا لا يعرفون غيره وطناً ومنشئاً قد ربطوا به حياتهم ومصيرهم، وكثير من الدول تلجأ لمنح الجنسيات لمثل هؤلاء لتغطية العجز في بعض التخصصات المختلفة، وهذا ما يحدث الآن في أمريكا وكندا وغيرها من الدول مما جعل عشرات الآلاف من الممرضات من دول العالم تُجتذب إلى أمريكا وكندا للحصول على إقامة، وقد يكون من مصلحة بلادنا الغالية تحويل كثير من هؤلاء إلى إقامة نظامية شريطة الانخراط في مهنة التمريض والعمل فيها لسنوات محددة.

 

كل ما ذكرت أعلاه لا يعدو أن يكون اقتراحات على سبيل التمثيل لا الحصر، وهناك الكثير والكثير مما يمكن القيام به إذا تم تكوين فريق عمل من كل وزارة من الوزارات الست المذكورة أعلاه بقيادة وزرائها وتقديم خطة شاملة متكاملة  لمواجهة هذا التحدي فإن الأزمة العالمية التي نمر بها هي امتحان لقوة وضعف النظام الصحي في بلاد العالم أجمع والتي أجمعت الدراسات الميدانية والاحصاءات الحالية والتوقعات المستقبلية على أنها ستتفاقم أكثر وأكثر. فهل هناك من يستجيبلصرخة ناصح أمين راعه حالنا؟.. وهل هناك أغلى من الصحة نبذل له من أوقاتنا وأفكارنا ونحشد له كل جهودنا؟..