الأنانية الأخروية ” الآن يا عمر .. الآن يا عمر “

 

في إحدى محاضراتي بعنوان “كن صاحب رسالة.. كن صاحب قضية.. بناء الأمة يبدأ ببناء الإنسان.. والإنسان تصنعه المواقف والعبر والدروس” أتطرق إلى مفهوم المنفعة الخاصة والمنفعة المتعدية، فأبدأ باختبار بسيط أطلب فيه من الحاضرين أن يرفعوا أيديهم إن كانوا يعرفون معنى كلمة (الإيثار)، أو (Altruism) في حال كانت المحاضرة باللغة الإنجليزية. وعلى مدى عامين من طرح هذا السؤال في أكثر من عشرين محاضرة على شرائح مختلفة من المجتمع من طلبة الثانوية إلى جامعيين بمختلف التخصصات إلى رجال أعمال إلى حرفيين في شتى مجالات الحياة، كانت النسبة دائماً ما بين 10 إلى 20% ممن يعرفون معنى هذه الكلمة (الإيثار).

 

وكنت أعيد السؤال وأسأل عمن يعرف معنى كلمة (الأنانية) أو (Selfishness) إذ كانت المحاضرة باللغة الإنجليزية، وأحصل دائماً على نسبة أكثر من 90%، فيكون تعليقي كالتالي :

إننا نعرف معنى كلمة الأنانية لأننا نمارسها يومياً، ولكننا قليلا ما نمارس الإيثار، لذلك لا نعرف معناه، فتنفجر القاعة ضحكاً تأكيدا أن هذا صحيح. ولكن بنظرة متأنية عميقة لتعريف كلمة الأنانية وكلمة الإيثار نجد أن منبعهما واحد والمحرك واحد، ألا وهو حب النفس، ولكن التعبير عنهما اختلف باختلاف طريقة نظر كل من الأناني والمؤثر لما فيه خير لنفسه.

 

ولتوضيح وتقريب المعنى دعونا نتأمل حواراً جرى بين الفاروق سيدنا عمر رضي الله عنه وسيدنا محمد صلى الله عليه وسلم..

قال الفاروق يوماً: “يا رسول الله أنت أحب إليّ من أهلي ومن ولدي ومن زوجي. فقال له الرسول صلى الله عليه وسلم: ومن نفسك يا عمر”؟
ولكن الفاروق لم يجب.. عاد لنفسه وخاض في أعماق نفسه وسأل نفسه : ماذا يعني أن أحب رسول الله أكثر مما أحب نفسي؟ ووجد نفسه إن فعل ذلك فإنه ستكون له مكانة في الآخرة، فإنه إن أحب نفسه حب الآخرة لا الدنيا، فمن الأفضل له أن يحب محمداً صلى الله عليه وسلم أكثر من نفسه، فعاد وقال: “أنت أحب إليّ من نفسي. فقال له الرسول صلى الله عليه وسلم: الآن يا عمر”.

 

وقد أطلقتُ على هذا النوع من الأنانية “الأنانية الأخروية” أو حب النفس من منطلق النّظرة الأخروية، فحب النفس متأصل في قلب كل واحد منا، بل إن حب النفس أيضاً واجبٌ على كل واحد منّا، حيث إن في كل واحد منا نفخة الرحمن “ونفخت فيه من روحي”، ولكن السؤال هو: كيف تحب نفسك؟ أتحبها الحب القصير المدى أو البعيد المدى؟ حب الدنيا أم حب الآخرة؟ الحب الذي يبقى لك في حياتك الأزلية أم الحب الذي يموت مع إزهاق الروح ومغادرتها الجسد الفاني؟

 

إن الذي يؤثر حباً لما فيه خير لنفسه في الآخرة، ويرى الله خيراً من نفسه فيكون أهلا لتوفيق الله، هو في الحقيقة محب لنفسه حباً صادقاً واعياً حكيماً بعيد النظر، والذي يمارس الأنانية الدنيوية هو مؤثرٌ لدنياه على آخرته، وعلى قدر ما يكون في المجتمعات من تطبيق هذا المفهوم على أرض الواقع، يكون ازدهارها، وإلا فإنها تعود مجتمعات جاهلية وإن كثرت فيها وسائل التقدم الصناعي والمعلوماتي والتقني.

 

وعندما نمعن النظر في مجتمعاتنا، نجد أننا ندرس أبناءنا في المدارس شيئاً عن الإيثار، ولكننا نؤصل فيهم الأنانية الدنيوية على أرض الواقع العملي، بل ونسخر ممن يمارس الإيثار وكأنه صورة من صور البلاهة والغباء والحمق، وهذه صورة من صور الخيانة التي تؤدي بالمجتمعات إلى التدهور والتقهقر، بل والانهيار.. يقول مالك بن نبي: “إن الأفكار التي يخونها أصحابها تنتقم لنفسها”.

 

إننا نفهم كيف أن الخيانة وعدم الأمانة في تصميم وبناء جسر يمكن أن تؤدي بالجسر إلى الانهيار، وكذلك الحال بالمجتمعات التي تخون نماذجها الأساسية، وهذا شيء مما حدث للأمة الإسلامية.. نحن ندفع ثمن خيانتنا لنماذجنا الأساسية في هذا الدين، ومنها المفهوم الذي بين أيدينا اليوم.

 

ومن أمثلة ذلك أن حبنا لأنفسنا وما نملك يدفعنا للدفاع عن ممتلكاتنا، وهذا واجب علينا.. فيأتي أحدهم ويتفانى في الدفاع عن ماله ويعتبر ذلك وجهاً من أوجه الجهاد في سبيل الله “من مات دون ماله فهو شهيد” وهذا حق، ولكننا في المقابل نأتي للمال العام والذي فيه التغليظ أشد والحرمة أعظم ونبرر لأنفسنا تقصيرنا في الدفاع عنه، فنقول لبعضنا بعضا “من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه” أو نقول “أرضي أقاتل دونها، وأما الأرض العامة فلها رب يحميها”.

 

إننا قولبنا وبرمجنا إنسان مجتمعنا ليكون هذا هو تعريف المواطن الصالح عندنا “صاحب المصلحة الخاصة والنفع الخاص”.

 

هذه القولبة والبرمجة تجعل من إنسان المجتمع إنساناً يعيش لنفسه أنانياً أنانيةً دنيويةً بعيداً عن حب النفس الحقيقي الصادق أو ما يسمى بالأنانية الأخروية. بل وتؤثر هذه القولبة كذلك على فهم إنسان المجتمع المسلم فقه الأولويات في العبادة التي هي اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه، فتجد إنسان هذا المجتمع المقولب المبرمج يفوّت على نفسه عمل خير أعلى مقاماً (مصلحة متعدية) لصالح عمل أقل مقاماً ودرجة، ولكنه يراها بنظارته الأنانية الشخصية أعلى درجة.

 

مثال ذلك رجل في طريقه لصلاة الجمعة في يوم حارق ملتهب، فيرى على قارعة الطريق أخاً له وقد تعطلت سيارته، وزوجته وأطفاله الصغار يحترقون تحت أشعة الشمس الملتهبة، ينظر إليهم ويحمد الله أن أكرمه ولم يبتله كما ابتلاهم، ويستمر حتى يصل إلى المسجد، ويدخل ذلك المسجد المُكيّف وقد وجد لنفسه مكاناً جيدا، ويزداد إحساسه بكرم الله عليه أن كتب له أن يصل قبل بدء الخطبة ويجد مكاناً لكي يستفيد من الخطبة.

 

هذه صورة من الصور التي تتكرر كثيراً وفيها تجسيد لقمة الجهل بمراتب العبادة في الدين الإسلامي الحنيف ومكانة المصلحة والمنفعة المتعدية. قال عليه الصلاة والسلام: “لأن يمشي أحدكم في حاجة أخيه خير له من اعتكافه في مسجدي هذا”.

 

إن إنسان المجتمع المسلم يحتاج إلى إحياء مفهوم “الأنانية الأخروية” لنرى آثارها على الواقع صوراً متنوعة من صور أعمال المنافع والمصالح المتعدية، وإنني أؤمن بأن هذه الصور بدأت تخرج لنا من رحم الربيع العربي، وقد رأيت بأم عيني في سورية أسمى صور التضحية والإيثار (الأنانية الأخروية) من شتى شرائح المجتمع، أناس ضحوا بأرواحهم من أجل أن تعيش أوطانهم كريمة عزيزة. وإنني أؤمن بأن هذه الصور الواقعية ستجلي كثيراً مما ران على قلوب إنسان مجتمعنا، وستزيل عن جوهر قلوب أبناء هذه الأمة ما غطاها من تراب الدّنيا المتراكم ليعود جوهر إنسان هذا المجتمع المؤمن المسلم يؤثر على نفسه ولو كان به خصاصة، حباً لنفسه وأنانية أخروية باقية أزلية.

 

نعم. هذا هو حب عمر الفاروق لنفسه الذي علّمه إياه معلم الإنسانية سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، ولم يقبل للفاروق إسلاماً بدونه حتى أدركها الفاروق بعقله وبقلبه فنطق بها لسانه قائلاً “أنت أحب إلي يا رسول الله من نفسي”، فأجابه المعلم سيد الخلق “الآن يا عمر.. الآن يا عمر”.

 

 

  لقراءة المقالة من صحيفة الوطن الرجاء الضغظ على الرابط أدناه :

http://www.alwatan.com.sa/Articles/Detail.aspx?ArticleID=11228