الاعتداء الجنسي.. ثقافة الصمت وآلية التلقين

يقول محمد مايكل ـ الذي فضل هذا الاسم المستعار ليحمي عائلته من الفضيحة ـ في صفحته على “الفيس بوك”: “لا أستطيع أن أتصور النظرة على وجه والدتي إذا علمت أن ابنها قد اعتُدي عليه جنسيا طوال سنوات طفولته، بل إن عدد الأشخاص الذين اعتدوا عليه خلال هذه السنين قد تعدى 25 شخصا، حتما إن هذه المعلومات ستقتلها، ولذلك لم يكن يعرف الاسم الحقيقي لصاحب هذه القصة إلا زوجتي وأختي، وهدفي من سردها هو أن أُسمع العالم العربي قصة طفل عربي عانى تجربة الاعتداء الجنسي أثناء طفولته، لعلي بذلك أسهم في حماية آلاف الأطفال من الضحايا الصامتين”.

وتؤكد الإحصاءات أن هناك عشرات الآلاف من الأطفال في العالم العربي يعانون مثل معاناة محمد مايكل، فإلى متى نُبقي رؤوسنا مغروسة في الرمال، وندعي أن كل شيء على ما يرام، بدلا من مواجهة الحقائق ومعالجة الأسقام.

 

يوثق محمد مايكل من الأردن في صفحته على “فيس بوك” حقيقة أن الاعتداء الجنسي بدأ يُمارس عليه وهو في عمر الخامسة أو السادسة، واستمر حتى سنوات المراهقة، يقول: “إنني لست فخورا بذكر ذلك، لكن لا أدري كيف سأسامح نفسي، ولكن عليك أن تتخيل ما يمكن أن يفعله ابن الرابعة عشرة من عمره تحت تهديد السكين، ظننا آنذاك أنه ليس لدينا من خيار”.

 

وقد أصدر معهد الطب الوقائي والاجتماعي بجامعة بيرن Bern University في سويسرا بحثا تضمن مراجعة كل الدراسات والأبحاث التي نشرت ما بين عامي 2002 و2009، وأشارت إلى حالات التحرش الجنسي بالأطفال ممن هم دون الثامنة عشرة، وكان مجموعها 55 بحثا ودراسة في أكثر من 24 دولة. وكانت النتائج كما يلي: 8% إلى 31% من الفتيات، 3% إلى 17% من الأولاد تعرضوا للتحرش الجنسي.

 

وفي إحصاءات أخرى وُجد أنه تتعرض فتاة واحدة من كل أربع فتيات على الأقل، وولد واحد من كل أربعة أولاد للاعتداء الجنسي في فترة ما من حياتهم قبل سن الثامنة عشرة. 10% من هؤلاء الأطفال يكونون في سن ما قبل المدرسة، 82% من الاعتداءات حصلت في أماكن يفترض أن تكون آمنة للطفل، 50% من جميع الاعتداءات وقعت إما في منزل الطفل أو المعتدي، 90% من هذه الحالات يكون فيها المعتدي قريبا من الطفل، ما يقرب من 30% يكونون من أقارب الطفل، وجلهم من الإخوة أو الآباء أو الأمهات أو الأعمام أو أبناء العمومة، ونحو 60% من معارفهم الآخرين مثل أصدقاء الأسرة أو المربيات أو الجيران، وأما الغرباء فهم الجناة في نحو 10% فقط من حالات الاعتداء.

 

وبالرغم من طبيعة المجتمعات العربية وميلها للتكتم والسرية في التعامل مع هذه القضية، إلا أن الإحصاءات لا تختلف كثيرا عن الدول الغربية، ففي دراسة قام بها الباحث النفسي الفلسطيني البروفسور مروان دويري، وجد أن 50% من الذكور، و31% من الإناث صرحوا بأنهم كانوا عرضة للمس أعضائهم الجنسية رغما عنهم من قبل آخرين. وفي دراسة يونيسيف الأردن، وجد أن 2 إلى 7 من كل 100 طفل قد اعتدي عليهم جنسيا من قبل أحد أفراد العائلة.

 

وفي السعودية بينت الدراسات أن طفلا واحدا من بين كل أربعة أطفال يتعرض لاعتداء جنسي كل عام، وأن 62% من هؤلاء رفضوا الإفصاح عن الأشخاص الذين تحرشوا بهم، وأن 61% من الحالات كان المعتدي هو أحد الأقرباء أو ممن يرتبطون معهم بعلاقات عائلية، وأن السن التي يكون فيها الطفل أكثر عرضة للاعتداء تكون ما بين 6 سنوات إلى 10 سنوات.

 

ومما يجعل الأمر أسوأ في عالمنا العربي، غياب ثقافة الحوار بين الأطفال والآباء، وخوف الأطفال ألا يصدقهم الكبار، أو الخوف من نتائج الإخبار والإشهار وفضح الأسرار، والجهل بخصوصية أجسادهم ونفسياتهم ومشاعرهم وملكيتهم الكاملة لها وحقهم في قول “لا” عندما يتعدى أحد على ملكياتهم الجسدية، وسيطرة ثقافة التلقين والتلقي، وهي تجسيد لفكرة الفاعل والمفعول به، بحيث إن الكبار يلقنون والصغار يتلقون دون مناقشة أو تفكير، يتلقون الحقائق والمعلومات بل وفلسفة الحياة، كما يتلقون الإهانات والتوبيخ والعنف الجسدي والجنسي دون مقاومة أو رفض أو نقاش، وهذه نتيجة متوقعة ومحصلة حتمية لهذه الآلية التلقينية الفوقية للتعليم والتربية، التي كما تؤسس الاحترام والطاعة للكبار، فإنها ـ وللأسف الشديد ـ ترسخ كذلك الخضوع والرضوخ لرغبة الكبار، وإن كان فيه أذى وضرر للصغار. ومما يفاقم الأمر أيضا ضعف الثقافة الجنسية بانعدام المناهج التوعوية في المدرسة، وجهل الآباء والأمهات بأهمية هذا النوع من الثقافة والمعرفة.

 

 

إن التكتم والتعتيم قد يؤديان إلى نتائج عكسية؛ لأن الطفل سيبدأ في اجترار ما تعرض له، ومن الممكن أن يؤدي ذلك إلى مشاكل نفسية وأمراض عقلية وازدواج في الشخصية، فيندفع لإيذاء الآخرين، وبذلك يصبح معتديا بعد أن كان ضحية.

 

هناك مؤشرات نفسية وسلوكية للاعتداء الجنسي وآثار قريبة المدى، منها تغيير مفاجئ في شخصية الطفل من مَرِح إلى حزين ينزع للانطوائية، وفقد الثقة بالنفس وبالآخرين، والشعور بالذنب، إضافة إلى مشاكل في النوم وقلق وكوابيس، ومشاكل مدرسية، وسلوكيات تدمير الذات، والاكتئاب، بل والأفكار الانتحارية.

 

إن أهم طرق حماية الطفل من الاعتداء الجنسي هي الوقاية، بتوفير جو من الأمان الأسري، يكون الطفل فيه قادرا على الحديث مع والديه بأريحية وشفافية وحرية، وتعليم الطفل المعلومات الأساسية للثقافة الجنسية، وملكيتهم لأجزاء من أجسادهم ملكية شخصية، وبناء الثقة فيهم للدفاع عن أنفسهم وليقولوا “لا” لأي فعل غير عادي ولو حدث من أي شخص، دون اعتبار لأي صداقة أو قرابة أسرية.

 

وقد أصدرت دار Hachette الفرنسية موسوعة بعنوانEncyclopédie de la vie sexuelle وهي مكونة من أربعة أجزاء، الجزء الأول للأطفال من 7 إلى 9 سنوات، والجزء الثاني للأطفال من سن 13 إلى 15 سنة، الثالث للمراهقين، والرابع للبالغين، وفيه معلومات علمية مقننة وواضحة صريحة تعطي فكرة وافية لكل عمر.. كم نحن في حاجة في عالمنا العربي لمثل هذه الموسوعة العلمية، وأن تصبح جزءا من مناهجنا الدراسية.

 

لم تعد حماية الأطفال من الاعتداء الجنسي مجرد واجب أخلاقي وإنما حالة طوارئ ومسألة بقاء وطنية، وهي مسؤولية عظيمة مشتركة بين الأسرة والمدرسة والمجتمع، وفي التقصير في حقها فساد عظيم، وهل هناك إفساد أعظم من أن تفسد النفس البشرية، وتنتكس الفطرة السوية لطفل اليوم ورجل وامرأة الغد، على يد مجرم منحرف مفسد، نتيجة إهمال الآباء والمربين أو جهلهم بما يجب عليهم أن يعلموه أبناءهم لحماية أجسادهم وعقولهم ونفوسهم من أعظم الجرائم ضد الإنسانية؟. يقول الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم: “ما من عبد يسترعيه الله رعية يموت يوم يموت وهو غاش لرعيته إلا حرم الله عليه الجنة”.

 

 

 

 

 لقراءة المقالة من صحيفة الوطن الرجاء الضغظ على الرابط أدناه :

http://www.alwatan.com.sa/Articles/Detail.aspx?ArticleId=17493