التعليم التفاعلي

إن أفضل استثمار على وجه الأرض هو الاستثمار في الإنسان، وأقيمه وأفضله هو الاستثمار في عقل الإنسان.

 

بيّن فيلم وثائقي بعنوان: “في انتظار سوبرمان” أن أهم عامل لإنجاح منظومة التعليم هو المعلم، وأن الطالب بين يدي معلم قوي يستطيع أن يحصل على ثلاثة أضعاف العلم مقارنة بالمعلم الضعيف. بمعنى آخر، إن تحصيل عام واحد من معلم قوي أفضل من تحصيل ثلاثة أعوام من معلم ضعيف.

 

والتحدي الكبير هنا هو كيف نستطيع أن نرتقي بملايين المعلمين في العالم العربي من أجل صناعة جيل قادر على منافسة مخرجات التعليم العالمية والنهوض بمجتمعنا وأمتنا؟ وللإجابة عن هذا السؤال علينا أن ندرك أن الوسائل التقليدية للارتقاء بالمعلم مثل الدورات التدريبية لن تكون فعالة بالقدر المطلوب لتحقيق طفرة ونهضة تعليمية حقيقية في وقت وجيز، وتاريخ هذه الوسائل التعليمية كفيل بإثبات ذلك.

 

ومن أفضل الوسائل أن نبحث عن الندرة المبدعة من المعلمين في التخصصات المختلفة، بحيث يتم تسجيل المادة بأحدث الطرق التقنية والوسائل التوضيحية، وتوضع المناهج كلها في موقع مفتوح لكل الطلبة، ويلزم الطالب بالاستماع للدرس والتحضير مسبقاً قبل دخول الفصل، وبذلك يصبح الشرح النموذجي المسجل هو المثال والقدوة لملايين المعلمين، وهذا أكثر فعالية وتأثيراً من أي دورات تدريبية تقليدية، لأن المعلم يصبح حريصاً على أن يتنافس في الأداء مع الشرح النموذجي الذي بين يدي الطلاب، ويصبح الطالب حارساً على جودة التعليم، فلا يقبل أقل مما يرى، بل ونقدم لأولياء الأمور خيار المساهة والمشاركة في المراجعة والشرح بكل يسر وسهولة دون اللجوء لدروس خصوصية في المنزل، فالمنهج متاح بين أيديهم بالصوت والصورة.

 

قد يظن البعض أن هذا المشروع باهظ التكاليف، لكنه في الحقيقة عكس ذلك تماماً، فهو أقل تكلفة وأكثر فعالية من مئات دورات التدريب التقليدية لرفع مستوى المعلمين والدروس الخصوصية لتعويض النقص عند الطلبة. وهناك مشاريع مشابهة في دول مثل الهند وتركيا.

 

لكن هذا لا يكفي .. ولا بد أن يتلازم كل ذلك مع الانتقال بالتعليم من المنظومة التقليدية التلقينية إلى ما يسمى بالتعليم التفاعلي النشط. وإحدى الدراسات الحديثة التي تمت عام 2011م بينت أنه حين يتحول المعلم من الطريقة التقليدية لتعليم مادة الفيزياء إلى الطريقة التفاعلية، فإن مدى استيعاب الطلبة للمادة يتحسن بنسبة تعدت الـ 50%.

 

فما هو التعليم التفاعلي؟ للوصول إلى معرفة حقيقة التعليم التفاعلي يجب أن نعي أن تحقيق أفضل المخرجات البشرية من خلال التعليم يقتضي الفهم العميق للتغيرات الفسيولوجية العصبية لعملية التعلّم في الدماغ، وتصميم المنظومة والوسائل التعليمية لتتوافق مع هذه التغيرات. فهناك ما يسمى بدائرة التعلم، وهي تشرح الطريقة الطبيعية الفسيولوجية لانتقال المعلومات في أجزاء الدماغ في عملية التعلم، وتتوزع على أربع مراحل.

 

ففي المرحلة الأولى يتم استقبال المعلومات من العالم الخارجي باستخدام الحواس الخمس وتجميعها في جزء من قشرة الدماغ المسؤولة عن استقبال المعلومات الحسية.

 

أما المرحلة الثانية فهي مرحلة التأمل والتفكر في المعلومة المستقبلة في منطقة الفص الصدغي في الدماغ، وهي عملية تتم بين الإنسان وذاته، فهي شخصية وذاتية جداً، وتحتاج إلى وقت مخصص للتفكر والتأمل في المعلومة، وفيها يتم دمج المعلومات والبحث عن الترابطات والعلاقات بينها في الشعور واللاشعور، وتتم بأحسن صورها حين تغلق نوافذ المستقبلات الحسية من أجل التركيز ومنعاً للتشويش. وبطريقة غامضة وفجأة يأتي الجواب الصحيح والفهم العميق الراسخ من أعماق الإنسان لتصبح أشبه بالبصيرة النافذة التي تستحث التجديد والإبداع والاختراع، وبدون هذه المرحلة تصبح المعلومات سطحية ومبتورة ومؤقتة تماماً كالحفظ قبل الاختبارات من أجل كتابة الإجابة الصحيحة في الاختبار.

 

ثم تأتي المرحلة الثالثة التي ينتقل فيها طالب العلم من دور المستقبل للمعلومة إلى تكوين معرفة كأفكار جديدة وخطط ومفاهيم عامة في قشرة من الدماغ، وفيها تتم إعادة تشكيل المعلومات بطريقة خاصة تتناسب مع طريقة تفكير وفهم المتلقي، ليربط المعلومات السابقة بالحديثة بمنطق تشكيل المعلومات وترتيبها في الدماغ، فلكل إنسان دماغه الخاص به وطريقته الخاصة في تخزين المعلومات وترتيبها وربطها ببعضها بأسس منطقية خاصة به.

 

أما المرحلة الرابعة والأخيرة، فهي تجسيد وتحريك وتفعيل هذه المفاهيم والأفكار في الدماغ إلى أنشطة عملية حركية، أي تحويل أفكار من النظرية التجريدية إلى تطبيقات عملية محسوسة وملموسة، وهي بمثابة الاختبار والفحص والامتحان العملي النشط للنظريات وللأفكار التجريدية.

 

وتؤكد دراسات عديدة أن التغييرات الفسيولوجية في الدماغ التي تعكس تحقيق الدور التعليمي المطلوب لتحصيل العلم لا تتم في التعليم التلقيني السلبي الجامد، وبذلك فإن الطلبة في الفصل قد يستمعون للمعلم جيداً، لكن ليس بالضرورة أن يتعلموا أي شيء، فبدون تفاعل ليس هناك تعلم. وهذا متوافق مع ما يشاهد في تقنية الأشعة الحديثة بتصوير الرنين المغناطيسي الوظيفي، فبمتابعة سير الدم إلى الدماغ أثناء عملية التعلم وجد أن هناك فرقاً كبيراً في النشاط الدماغي بين التعلم التفاعلي النشط وبين التعلم السلبي في منطقة تسمى (Hippocampus)، وكذلك مناطق أخرى عديدة في الدماغ مسؤولة عن تكوين ذاكرة جديدة، بل السيطرة والتحكم في الذاكرة ووظائف أخرى هامة للتعلم والفهم. وبما أنها كذلك منطقة العواطف والأحاسيس فإنه على قدر حبنا وشغفنا ومتعتنا بما نتعلم تكون سهولة تحصيلنا وعمق فهمنا له.

 

 

وعند تصميمنا لمناهجنا الدراسية وأساليب تدريسها وتأهيلنا لمعلمينا، لا بد أن نسأل أسئلة هامة:

 

* هل استخدمنا أفضل وسائل التقنية في نقل المعلومات إلى أكبر قدر من الحواس أثناء عملية التعلم؟ حيث إن الدراسات أكدت أن استخدام أكبر عدد من الحواس يجعل التعليم أعمق وأثرى ويحفظ المعلومات لمدى أبعد.

 

* هل تركنا مساحة كافية من الوقت وصفاء الذهن أثناء عملية التعلم للتفكر والتأمل في المعلومات الكثيرة المنهمرة على طالب العلم وحث العقل على السؤال والتفكر وإثراء المنهج به؟ فالدراسات تؤكد أن بعض التأمل يؤدي إلى نتائج مذهلة.

 

* هل وثقنا في قدرة عقل كل طالب على أن يفكر بطريقته الخاصة؟ بل هل احترمنا خصوصية طريقة تفكيره وبنينا فيه الثقة لكي يستطيع أن ينتقل من مرحلة استقبال المعلومات إلى تكوين المعرفة والأفكار والمفاهيم الجديدة؟

 

* هل طعّمنا مناهجنا بالقدر الكافي من البحث وجعل أصل التعليم هو السؤال والحوار والنقاش؟ وهل تبادلنا الأدوار بين طالب العلم والمعلم في إلقاء المحاضرات وشرح الدروس؟

 

إن معظم مناهج التعليم والدورات تركز على محتويات المعلومات التي نريد من طالب العلم أن يتعلمها، لا كيف يمكن لطالب العلم أن يتعلم كيف يستقي المعلومات وكيف يصبح محباً وعاشقا للمعرفة والعلم. ففي معظم الأحيان نفشل في أن نجذب الطلاب إلى التعلم وليصبح العلم ممتعاً، فيفشلوا في أن يحولوا المعلومات إلى معرفة، والمعرفة من النظرية إلى التطبيق، ومن الأفكار التجريدية إلى التطبيقات العملية ليتغيروا بهذا العلم ويغيروا به العالم من حولهم.

 

 

 

 لقراءة المقالة من صحيفة الوطن الرجاء الضغظ على الرابط أدناه :

http://www.alwatan.com.sa/Articles/Detail.aspx?ArticleId=17493