الخوف ومستقبل أبنائنا

الخوف ظاهرة وحالة انفعالية طبيعية يشعر بها كل الكائنات الحية في كل المواقف. والفرق بين الخوف والقلق هو أن الخوف يكون نتيجة وجود سبب وعامل واضح وموجود يمكن أن يؤدي للأذى والضرر، أما القلق فهو توقع ظهور هذا العامل أو السبب على المدى القريب أو البعيد.

 

والإنسان يولد وقد زرعت فيه بعض أنواع الخوف، مثل الخوف من الأصوات العالية والارتفاعات، ثم تتطور أنواع الخوف وتزرع في الإنسان بناء على الظروف التي يعيش فيها، ففي دراسة على 50 شخصاً، وجد أنهم في مجموعهم يحملون أكثر من 7000 نوع من أنواع الخوف.

 

وتعد السنوات الأولى، خاصة الثلاث الأولى، من حياة الطفل أهم سنوات بناء الطفل وبناء الخوف داخله، سواء كان هذا الخوف هو الخوف الإيجابي المعقول الذي يساهم في البناء وحماية الطفل، أو كان الخوف السلبي الذي يشل حركته ويمرضه. فالسنوات الأولى هي أسرع فترة لنمو دماغ الطفل، فماذا يفعل الخوف في دماغ هذا الطفل الذي هو في طور التكون والتطور والنمو؟

 

في كل مرة يتعرض الطفل لموقف يستقبله عقله بأنه يشكل خطراً عليه (مثل الأصوات العالية أو الاعتداء الجسدي أو اللفظي أو النفسي أو العاطفي أو العنف الأسري)، فإن الدماغ وخاصة غدتي “Amygdale” و “Hippocampus” يرسل إشارات لإفراز هرمونات مثل الإيبينفرين والنور إبينيفرين والكورتيزول في المدى القصير، تؤدي هذه الهرمونات إلى زيادة دقات القلب والضغط وتوسيع شرايين الدم وضخ الدم إلى العضلات والأطراف وسرعة التنفس، فإذا اختفى سبب الخوف زالت الأعراض وعاد الجسم إلى حالته الطبيعية المتوازنة.

 

أما إذا تكرر الحدث وأصبح الطفل يعيش في حالة خوف مزمن، فإن استمرار إفراز الهرمونات يؤدي إلى تبعات سلبيّة كبيرة على الجسد والعقل والروح على المديين القصير والبعيد، وقد يؤدي إلى فقدان الثقة وتبخيس الذات وضعف الشخصية وحدة الطبع واضطرابات في النوم وفقدان الشهية والصداع ونوبات الذعر والقلق الدائم وضعف المناعة وصعوبة التركيز، بل وآثار سلبية أكبر من ذلك بكثير. فالذي يحدث هو أن هرمون الكورتيزول إذا استمر في الإفراز لفترات طويلة، فإنه يؤثر سلباً على طريقة نمو وعمل منطقة “Hippocampus” في الدماغ (والمسؤولة عن القدرة على التعلم وصنع خلايا الذاكرة الجديدة)، وهذا ما أكدته الأبحاث بأن الخوف المزمن في مراحل الطفولة يؤدي إلى ضمور في أجزاء من الدماغ المسؤولة عن التعلم والذاكرة، بل وقد وجد أن غدة “Amygdale” تتضخم عند الأطفال الذين تعرضوا إلى حادث مروع والمصابين بمرض الرهاب “Phobia” مما يجعلهم عرضة للقلق والخوف مدى الحياة، وذلك لإفراط نشاط غدة “Amygdale” وزيادة إفراز هرمونات الخوف والقلق والتوتر بدون وجود سبب معقول، وهذا هو سبب القلق الدائم.

 

ووسائل زرع الخوف في الطفل عديدة، أهمها انتقال مخاوف الوالدين لأطفالهما، حيث إن الطفل يرى العالم بعيني والديه.

 

وتخويف الوالدين أو أحدهما للطفل باستمرار والقسوة عليه والتهديد بالعقاب والتعنيف اللفظي والنفسي والعاطفي والمبالغة في الخوف والقلق عليه والتضييق عليه بذريعة الخوف، وأن تكون بيئة العائلة فيها الكثير من المشاجرات والخلافات.. كل ذلك يؤدي إلى فقدان الإحساس بالأمان والخوف من الانفصال أو الهجران وفقدان أحد الوالدين.

 

ويترتب على استمرار عوامل الخوف تفعيل دائم في نظام الخوف عند الطفل، ومع الزمن تصبح طبيعة الطفل هي القلق والخوف الزائد من كثير من الأشياء، ليصبح العالم مكاناً عدوانياً وغير آمن ويدعو للقلق والخوف. وبناء على الأبحاث فإن زرع الخوف عند الطفل في السنوات الأولى يعطل النمو الطبيعي للدماغ ويؤثر سلباً على تصرفات الطفل وسلوكه وعلى صحته العقلية والجسدية والنفسية مدى الحياة. ويؤكد العلماء أن الكثير من الأمراض العقلية والجسدية والنفسية التي تصيب الإنسان بشكل عام منبعها الخوف والقلق.

 

وما يجعل الأطفال ضحية سهلة هو عدم قدرتهم على إخراج أنفسهم من دائرة ومحيط وظروف الخوف الذي وضعوا فيه لتخفيف وطأة الحدث عليهم، لذلك تبقى آثار هذه المواقف والظروف والأحداث المخيفة مدى الحياة، علماً بأن الطفل عندما يبكي أو يغضب أو يتصرف بعنف فإنه يتصرف كرد فعل لإحساسه بالخوف. وأنجح طريقة لمعالجة هذه التصرفات هي الاهتمام والاحتضان والرعاية والحب الذي يؤدي إلى إفراز هرمون آخر عكس هرمون “الكورتيزول”، وهو هرمون “الأوكسيتوسين”، ويسمى بهرمون الحب، وهو الهرمون الذي يفرز أثناء الرضاعة ويقوي العلاقة بين الأم والرضيع، وكذلك يفرز عند الجماع بين الزوجين ويساهم في توطيد العلاقة الزوجية.

 

أما إذا قوبل الطفل بالغضب والرفض والأذي، فإن ذلك سيزيد من إفرازات غدة الأميجدلا ويزيد من خوف الطفل وغضبه وحزنه وعزلته. هذا على مستوى تربية الطفل – رجل الغد وامرأة الغد- وإذا انتشرت ثقافة زرع الخوف في الطفل في البيت والمدرسة والشارع، فإن المجتمع ككل يصبح مجتمعاً تكثر فيه التبعات السلبية للخوف على الصحة الجسدية والعقلية والنفسية، ويندر الإبداع في مثل هذه المجتمعات، فالخوف أكبر عدو لتقدم الإنسان وتطوره وإبداعه.

وكما ذكرنا سابقاً فإن هناك أنواعاً من الخوف الإيجابي، منها مخافة الله، والبعد عن كل ما حرمه الشارع، والخوف الذي يحمي الإنسان من الوقوع في المهالك، والذي جعله الشارع المقصد الأول للشريعة الإسلامية (حفظ النفس).

 

جعل الله في مخافته سبحانه وتعالى تحريراً للإنسان من خوف كل من وما سواه، بل في خوفه والإيمان به نتائج حميدة إيجابية على صحة الإنسان الجسدية والعقلية والروحية، وسنفصل لها مقالاً عن الإيمان والشفاء.

 

وجاء الأنبياء ليؤكدوا حرمة ترويع الآمنين، فهذا رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ يقول: “من أخاف مؤمناً كان حقاً على الله ألا يؤمنه من أفزاع يوم القيامة.” وسيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم مليئة بالقصص التي تؤكد هذا المفهوم، وهو حرمة ترويع الآمنين وتخويفهم، فهذا حديث رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ حديث زيد بن سعنة، وهو من أحبار اليهود، الذي أقرضَ الرسولَ ثم رأى أن يذهبَ قبلَ ميعادِ الوفاءِ المحددِ ليطالبَ بدَيْنِهِ، وقدْ افتعلَ القضيةَ كلهَا ليختبرَ صفةَ الحلمِ في الرسولِ صلى اللهُ عليهِ وسلمَ، واتهمَ بني عبدِ المطلبِ بالمماطلةِ، حينَ فعلَ ذاكَ تصدى له عمرُ بغضبٍ وهددهُ بقطعِ رأسهِ، وهنا كانَ ردُّ الرسولِ أبلغَ درسٍ في النهيِ عن الترويعِ والتخويفِ حتى لليهوديِ الذي افترى على الرسول الكريم، بل وأساءَ الأدبَ معهُ، فقالَ لعمرَ: اذهبْ بهِ يا عمرُ فأعطِهِ وزدهُ عشرينَ صاعاً من تمرٍ مكانَ ما رُعتَهُ، فلما تحققَ اليهوديُ من حِلمِ الرسولِ تيقنَ أنهُ الرسولُ المنتظرُ فدخلَ الإسلامَ.

 

ازرعوا الحب والأمل والثقة في قلوب أطفالكم وأبنائكم، وإياكم أن تزرعوا فيهم الخوف أو يروا منكم إلا الخوف الإيجابي البنّاء، كالخوف من الله عز وجل والتحرر ممن ومما سواه. فعلى قدر ما تمتلئ أوعية قلوبكم خوفاً من خالقكم ورجاءً وأملاً فيه وبه دون سواه، على قدر ما تتحجم صور الخوف السلبية المادية الأخرى، ويتحرر الإنسان من مخاوفه ومن قلقه.

 

 

 لقراءة المقالة من صحيفة الوطن الرجاء الضغظ على الرابط أدناه :

http://www.alwatan.com.sa/Articles/Detail.aspx?ArticleID=16840