الصوم.. معلم الرحمة

في كل عام يطرق شهر رمضان الكريم الباب علينا، فيفتح له كثير منا الفتوحات التقليدية.. يبدأ بفتح الجيوب والمحافظ من أجل التسوق وإعمار الموائد لتمتد طولاً وعرضاً بكل ما لذ وطاب من الطعام الذي لا يُرى إلا في شهر رمضان، فلا عجب أن ترتفع الأسعار في رمضان.. سواء للأغذية أو لمختلف السلع الاستهلاكية الأخرى، حتى أصبح رمضان مرادفاً لمعاني التسوق والاستهلاك.. بل أصبح شهر التسوق والاستهلاك بامتياز.

 

 ثم يأتي الفتح التقليدي الثاني المتمثل في فتح الأفواه والأشداق للطعام والشراب، حتى أصبح الصوم بمثابة محفز لشهوة البطن، وأصبح الإفطار مكافأة له في الكم والنوع، وهو ما حاد عن كبح جماح شهوة البطن متحولاً إلى تقويتها.

 

 أليس الانغماس في ملذات الطعام والشراب في شهر الصوم هو انعكاس لتأصل الشهوات في أنفس لم تعتد أن تقهر شهواتها حين تصوم؟

 

 ويأتي الفتح التقليدي الثالث بفتح الأعين على اتساعها لمشاهدة المسلسلات والأفلام والبرامج الرمضانية.. ألم يصبح رمضان شهر البرامج والمسلسلات؟ إن نظرة سريعة على الصحف وإعلانات المسلسلات في رمضان، وملاحظة ارتفاع أسعار الإعلانات كفيلتان بإثبات ذلك، حيث إن ارتفاع أسعار الإعلانات يعكس بالضرورة ازدياد عدد المشاهدين في رمضان.

 

إن الفهم الواعي لحقيقة الصيام يوجّهنا لأن نفتح لرمضان غير هذه الفتوحات التقليدية.. يجعلنا نسعى لنفتح لهذا الشهر الكريم قلوبنا ليحررها، فرمضان هو شهر ثورة النفس على النفس وعاداتها، وهو شهر الفقر الإجباري الذي يعلم الرحمة ويدعو إليها. ولم أجد تعبيرا أدق عن هذا المعنى من مقال للرافعي تحت عنوان: (شهر للثورة.. فلسفة الصيام) الذي يقول فيه:

 

 “إن الصيام فقر إجباري يراد به إشعار النفس الإنسانية بطريقة عملية واضحة كل الوضوح، أن الحياة الصحيحة وراء الحياة لا فيها، وإنها إنما تكون على أتمها حين يتساوى الناس في الشعور لا حين يختلفون، وحين يتعاطفون بإحساس الألم الواحد، لا حين يتنازعون بإحساس الأهواء المتعددة، وبهذا يضع الإنسانية كلها في حالة نفسية واحدة تتلبس بها النفس في مشارق الأرض ومغاربها، ويطلق في هذه الإنسانية كلها صوت الروح يعلم الرحمة ويدعو لها، ومن قواعد النفس أن الرحمة تنشأ عن الألم وهذا بعض السر الاجتماعي العظيم في الصوم، إذ يبالغ أشد المبالغة، ويدقق كل التدقيق، في منع الغذاء وشبه الغذاء عن البطن وحواشيه مدة آخرها آخر الطاقة، فهذه طريقة عملية لتربية الرحمة في النفس، ولا طريقة غيرها إلا النكبات والكوارث، فهما طريقتان كما ترى: مبصرة وعمياء، وعلى نظام وعلى فجأة” (انتهى كلام الرافعي)

 

 إنني إذ أقرأ هذه الكلمات، أستشعر أن من موجبات تحقيق أعمال الصيام في النفس هذا العام، إحداث هذه الثورة.. ثورة على النفس تُعلي صوت الروح على همهمات مطالب الجسد، وتُعلي صوت مطالب الأمة على وساوس مصلحة الفرد، إنها ثورة تُعلِّم الرحمة وتُعبِّر بها من داخل النفس إلى مشارق الأرض ومغاربها.

 

 يريد رمضان أن نُري هذه الرحمة لإخواننا وأخواتنا المنكوبين في بلاد الشام وفي بورما وفي كل مكان.. فهل سيُحْيي الصيام الرحمة في نفوس أبناء الأمة على كل منكوبي الأرض وضعفائها؟ وهل سيُحرِّكهم تجاه نصرة الحق وأهله؟ أم سنظل نحن الصائمين القائمين مثل هذا العابد الساكت عن الحق الذي جاء في حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: “أن أوحى الله عز وجل إلى ملك أن اقلب مدينة كذا وكذا بأهلها.. فقال: يارب إن فيهم عبدك فلاناً العابد لم يعصك طرفة عين، فقال: به فابدأ.. واقلبها عليهم.. فإن وجهه لم يتمعَّر فيَّ ساعة قط”.

 

إن الأمة إذا لم تعتبر برمضان كما قال الرافعي فتنتصر لضعفائها، فليس لها غير طريق النكبات والكوارث يبصرها برسالتها والأمانة التي حملتها.. أو استبدال الله لها بغيرها. كيف لا وأهل الباطل يزدادون طغياناً وفجوراً، وأهل الحق يزدادون خوراً وسكوتاً وخضوعاً وخنوعاً.

 

 

  لقراءة المقالة من صحيفة الوطن الرجاء الضغظ على الرابط أدناه :

http://alwatan.com.sa/Articles/Detail.aspx?ArticleID=13056