الصوم و الغضب

من حقائق رمضان التي يغفل عنها كثيرون أن شهر رمضان لم يشرع من أجل أيام رمضان فقط.. ولكنه كذلك من أجل ما بعد رمضان.

 

إنه شهر أراد الله به أن يكون بمثابة التدريب العملي الذي يتغير به الإنسان المسلم ليصبح بعد رمضان خيراً منه قبل رمضان، وإلا فإن حكمة الصيام لم تتحقق، وهذا التغيير لا يكون ولن يكون إلا إذا دخل رمضان قلوبنا وحرّرها لتكون أكثر خشية وتقوى، وألين للعبادة والطاعة، قال تعالى: “يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون”.

 

وبهذه التقوى يتحرى العبد ما يرضي الله ويتجنب ما يُغضبه، وهذا التحري هو الذي يوقظ الهمة ويحيي روح المجاهدة التي ثمرتهما التغيير الإيجابي.

 

وفي هذا الشهر الجليل يتكرّم رب العباد ـ سبحانه وتعالى ـ على عباده بأن يستدرجهم للإكثار من فعل الخيرات، فيُصفِّد لهم الشَّياطين ويفتح لهم أبواب الجنة ويغلق أبواب جهنم ويضاعف لهم الحسنات، وقد جعل الكريم ـ سبحانه وتعالى ـ في هذا الشهر العظيم فضائل كثيرة تُدخل الجنة وتُخرج من النار بأقل العمل.. والحكمة من ذلك – في رأيي- هي استدراج المسلم حتى يتذوّق حلاوة الإيمان ولذّة القرب منه وطعم فعل الخيرات.. فإذا تذوّق عرف، وإذا عرف فإنّه سيواظب على فعل الخيرات ويصبح بعد رمضان خيراً منه قبل رمضان.

 

بل ويذهب الشّارع إلى أكثر من ذلك فيعين الصائم أن يتخلّص من العادات والطباع الخبيثة حتى وإن جُبِل عليها وتَمَكّنَت منه أو أصبحت جزءاً من شخصيته.. فالصّيام يُعلّم كيف تصوم جوارح الصائم عما يُغضِب الله. وكي أضرب مثالاً على ذلك دعونا نر كيف يُعالِج رمضان أحد أشد وأفتك العادات السيئة على الإنسان وهي مرض الغضب، فنجد الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم يأمرنا أن نتجنّب الغضب خاصة في رمضان في الحديث الذي رواه أبو هريرة رضي الله عنه وأرضاه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “إذا كان يوم صوم أحدكم فلا يرفث، ولا يصخب، فإن سابّه أحدٌ أو قاتله، فليقل إني صائم.” (متفق عليه)

 

والغضب مكروه في كل أيام السنة، وإن كان في تركيز رسول الله صلى الله عليه وسلم على “يومُ صومِ أحدِكم” صورة من صور الإعجاز العلمي.. فعلم الطب الحديث يجلي لنا وجهاً من صور هذا الإعجاز فعندما نغضب تزداد نسبة إفراز أحد هرمونات الجسم المسمى بالأدرينالين (Adrenaline) عشرات الأضعاف، ويقوم هذا الهرمون بوظائف مختلفة نذكر في مقالنا هذا اثنين منها فقط وتأثير كل وظيفة منها على “يوم صوم أحدكم”.

 

أولاً .. يؤدي هرمون الأدرينالين إلى زيادة وتسارع حرق مخزون الجلايكوجين في الكبد، وهذا المخزون مهم فهو يتحول إلى سكر بسيط (جلوكوز) في الدّم ليمد الجسم بالطاقة اللازمة أثناء الصيام، وفي حالة الغضب كما ذكرنا سابقاً يزداد إفراز هذا الهرمون عشرات الأضعاف وبذلك يحترق مخزون الجلايكوجين سريعاً ليمد الجسم بما يحتاج إليه من طاقة أثناء الشجار والعراك، وفي هذا استنزاف لطاقة الجسم أثناء الصيام فما ينتصب نهار الصائم إلا وقد أحس بإنهاك شديد وتعب وإجهاد نتيجة استنزاف طاقته في غير محلها الصحيح.

 

ثانياً .. يؤدّي هرمون الأدرينالين إلى زيادة الإدرار البولي مما يجعل الصائم يفقد كمية أعلى من السوائل إذا غضب أثناء صيامه، وفي هذا إجهاد للكليتين والقلب وإضرار به وبجسده، وقد يصيب الصائم جراء ذلك إحساس بعطش شديد وإنهاك وإعياء في آخر يوم صومه نتيجة زيادة إفراز هذا الهرمون أثناء غضبه.

فكأن الله ـ سبحانه وتعالى ـ قد وضع في عملية الصيام من الخصائص الفسيولوجية ما يدرّب الصائم به على كبح جماح غضبه بطريقة لا شعورية وإن أخطأ وغضِب المرة الأولى فإنه سيدفع ثمن ذلك إعياء وتعباً وإرهاقاً وجوعاً وعطشاً، وإن كرّرها أحسّ بنفس الأعراض فيخزّن ذلك في كل من العقل الواعي (الشعور) واللاوعي فيجد نفسه تلقائياً يتفادى كل ما يجرّه إلى الانفعال والغضب أثناء صيامه، فلا ينتهي الشهر إلا وهو أقدر على ملك غضبه من ذي قبل.

 

 

إن الذي يغضب ـ خصوصاً في رمضان ـ لغير ما يُغضِبُ الله من سفاسف الأمور وتوافهها يفوته الكثير، ففي ذلك نقص في الأجر والثواب، وفي ذلك استخفاف بالعقل والفؤاد وإهدار للطاقات، قال ابن عمر رضي الله عنهما لرسول الله صلى الله عليه وسلم: “قل لي قولا وأقلله لعلي أعقله”، فقال “لا تغضب” فأعدت فقال: “لا تغضب” فأعدت فقال: “لا تغضب”.

 

فمن كان من المبتلين بهذه الخصلة الذميمة وخرج من رمضان وعاد كما كان قبل رمضان فليسأل نفسه: لماذا لم يغيرني رمضان؟ بل فليسأل نفسه: هل فاتني رمضان؟ لأن رمضان – كما قلنا – لم يكن يوما من الأيام من أجل رمضان.. ولكن من أجل ما بعد رمضان.. ولنحذر جميعا أن نكون ممّن وصفهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله: “وكم من صائم ليس له من صومه إلا الجوع والعطش”.

 

 

  لقراءة المقالة من صحيفة الوطن الرجاء الضغظ على الرابط أدناه :

http://www.alwatan.com.sa/Articles/Detail.aspx?ArticleID=11878#.UBOablsDiTZ.facebook