العدالة الاجتماعية.. مقياس تقدم المجتمعات

إن أدقّ مقياس لمدى تقدُّم أي مجتمع هو مدى تحقيق العدالة الاجتماعية فيه. نعم .. قد يقع الاختلاف في تعريف ما يسمى (العدالة الاجتماعية) وكيفية تحقيقها، ولكن الذي لا يُختلف عليه -لمن كان قصده وغايته إرساء العدل- هو أن هناك متطلبات أساسية يجب أن تتوفر لكل فرد في المجتمع (أساسيات الحياة) وأنها إن لم تتوفر لكل فرد في مجتمع فيه ثراء فاحش فاعلم أن هناك ظلماً قد وقع على شريحة من أفراد المجتمع.

 

يأتي من يتحجّج ويتعلّل وبكل وقاحة يقول لنا إن الفقر حقيقة لا بد منها! وواقع لا محالة في كل المجتمعات إلى يوم القيامة ولا نستطيع القضاء عليه!

 

 قد أتفهم ذلك وقد أجد له مبرراً في المجتمعات الفقيرة التي تفتقر بشكل عام إلى الموارد الطبيعية والبشرية المؤهلة لتحقيق نهضة بلادها. ولكن لا أستطيع أن أبرره عقلاً ولا شرعاً في المجتمعات الثرية التي تزداد فيها الفجوة كل يوم بين شريحتي الثراء الفاحش والفقر المدقع.

 

وقد وصف الله لنا أساسيات الحياة في ذلك الفردوس الذي ضاع من بني آدم بطرد آدم عليه السلام منها، فقال “إن لك ألا تجوع فيها ولا تعرى * وأنك لا تظمأ فيها ولا تضحى”، فهي الطعام والشراب واللباس والمسكن الآمن الذي يقي الحر والبرد. ولكن الأرض التي هبط عليها آدم عليه السلام وزوجه تختلف في كون الإنسان أصبح معرضاً فيها للامتحان والابتلاء، ومن صور هذا الامتحان (المرض) فكان لا بد من أخذ أسباب العلاج، فأصبح (العلاج) ضرورة من ضرورات الحياة وأساسياتها.

 

 كما أن الغذاء والملبس والمسكن لن تأتي من فراغ في عالم الأرض، فلا بد من العمل .. وبما أن فرص العمل تزداد بوجود المؤهلات والمهارات الجسدية والعقلية التي تُكتسب بالتعليم، فقد أصبح العلم حقا لكل فرد في المجتمع، وأضحى من المعروف أن الحرمان من التعليم يقلص فرص العمل .. وبدون العمل لا يستطيع الفرد الحصول على حاجاته من الغذاء والملبس والمسكن وأساسيات الحياة.

 

والإسلام .. الدين الوسط الذي يتوافق مع الفطرة البشرية لا يُحرِّم الثراء والغنى كما تفعل الشيوعية ما دام المال قد اكتُسب بالحلال. ولكنه كذلك لا يقبل أن يكون في المجتمع  ثراء فاحش وفقر مدقع، كما هو الحال في الرأسمالية (البراغماتية) التي أُسّست على أساس الفردية، والتي أوجدت المسوِّغات والمبرِّرات فأعدمت الضمير الإنساني، فتجد على سبيل المثال كُتَّابها المؤسسين لها مثل إيمرسون يقولها بصراحة وبدون أي خجل أو تحفظ أو مداراة أو مواربة (For They are not my poor) أي أن (الفقراء ليسوا فقرائي وليسوا مسؤوليتي).

 

إن الإسلام لا يريد أن يبقى المال دُولة بين الأغنياء لا يصل إلى أيدي الفقراء، فأوجد الآليات التي تقي المجتمع من الوقوع في ذلك وتحميه من الاحتكار وتعطيل أدوات الإنتاج في المجتمع الإسلامي، بل ذهب القرآن إلى أبعد من ذلك في قوله “أرأيت الذي يكذب بالدين” أي: “يا محمد.. أتريد أن تعرف من هؤلاء الذين يكذبون بالدين؟”

 

لو سألت اليوم معظم المسلمين “من هؤلاء؟” .. فإنك ستجد إجابات معظمها بعيد كل البعد عن تعريف القرآن لها في هذه الآية، فستجيبك مجموعة بأن الكفار هم الذين يكذبون بالدين وآخرون سيجيبونك بأنهم المشركون، ولكني أكاد أجزم بأن قليلين هم الذين سيجيبون عن السؤال كما أجاب عنه القرآن وأوضحه بيِّناً جليَّاً لا شُبهَة فيه.

 

يبين الله لنا أن الذين يكذبون بالدين “فذلك  الذي يدع اليتيم * ولا يحض على طعام المسكين” .. ودَعُّ اليتيم كما يشرحه الدكتور أحمد خيري العمري في كتابه (المهمة غير المستحيلة) هو دفع اليتيم وتهميشه (أي تهميش اليتامى والنساء وتعريضهم للظلم لمجرد أنهم الأضعف) وعدم الاعتناء والاهتمام بهم وأخذ أسباب رعايتهم.

 

أما كلمة “الحض” فهي أعلى درجة من الحث .. “الحض” هو أن تكون قضية حياتك في خدمة غيرك .. في رفع المعاناة عنهم .. في إطعام المساكين .. في الدفاع عن حقوقهم. “فويل للمصلين * الذين هم عن صلاتهم ساهون” .. هم أولئك الساهون الغافلون عن معاني هذه الصلاة وتفعيلها في الحياة، “الذين هم يراءون ويمنعون الماعون” .. لم يقل القرآن “يراءون الناس” كما وصفهم في آيات أخرى، فهؤلاء يراءون أنفسهم ليريحوا ضمائرهم أنهم أدوا الصّلاة كشعيرة، ولكنهم ما إن ينتهوا منها ويخرجوا للحياة تجدهم يمنعون الماعون .. والماعون في اللغة العربية بالإضافة إلى الإناء والقدر، هو الفأس والدلو، ويمثل كل أدوات الإنتاج والمنفعة العامة .. أي أن كل هؤلاء الذين يؤدون شعيرة الصلاة وتجدهم “ساهون” عن معانيها، وأدوا دورها في الحياة فصارت الصلاة شاهداً على سهوهم عن معانيها، فسجدوا بجوارحهم في حركات الصلاة ولم تسجد قلوبهم في محراب الحياة .. فخرجوا وعطّلوا أدوات الإنتاج في مجتمعاتهم، فكانوا هم أنفسهم المحتكرين للأراضي والأموال والثّروات، وبقيت الأموال دُولة بينهم، وبذلك انتشرت البَطَالة وتعطّلت فعاليةُ المجتمع، وازدادت بذلك الفجوة بين الأثرياء والفقراء، ووقع الظلم واختل الميزان وطغى الإنسان عندما خالف أمر الرحمن في قوله “ألا تطغوا في الميزان * وأقيموا الوزن بالقسط ولا تخسروا الميزان”.

 

إن الغذاء والشراب والمسكن والتعليم والصحة هي من أساسيات الحياة التي هي حق لكل فرد من أفراد المجتمعات الإسلامية، ولا تبرير ولا عذر يُقبل في المجتمعات الثّرية التي ترى فيها ثراء فاحشاً.

 

بل أذهب أبعد من ذلك وأقول بأن لكل فرد الحق في المجتمعات الثرية أن يمتلك بيتاً يؤويه ويشعر بالأمان بامتلاكه .. بيتٌ سَكَنٌ له ولعائلته. ليس من العدل أن يبقى معظم أفراد المجتمع غير قادرين على تَمَلّك بيوت، نظراً لاحتكار الأراضي من قبل حفنة من الرجال، ومن حقهم أيضاً أن تتكافأ فرص علاجهم مع غيرهم مع سرعة الحصول عليها كأي فرد آخر بغض النظر عن الحالة المادية أو النفوذ أو المكانة، فالصحة كالغذاء والملبس والمسكن من أساسيات الحياة الكريمة في كل مجتمع.

 

إن هذا هو المقياس الحقيقي لتقدم أي مجتمع كان، وليس المقياس في جمال العمران ولا في بناء المدن ولا في تزيين الشوارع ولا في التطاول في البنيان.

 

 

د. وليد أحمد فتيحي

طبيب استشاري ورئيس مجلس الإدارة والرئيس التنفيذي

المركز الطبي الدولي بجدة