العفو والصفح خير وشفاء لك

تحدثنا في المقالين السابقين عن قدرة الحب على الشفاء “الحب يشفيك قبل أن يشفي غيرك”، وتحدثنا عن الآثار المدمرة للبغضاء “البغض يمرضك ويؤذيك قبل أن يؤذي غيرك”، وأوضحنا في المقال الأول التغيرات الإيجابية التي تطرأ على الإنسان جسداً وعقلاً وروحاً عندما يشعر بالحب، وكذلك التغيرات السلبية المدمرة التي تطرأ على الإنسان جسداً وعقلاً وروحاً عندما يشعر بالبغض. وأوضحنا أن البغض محرمٌ في ديننا، فالأصل في الإنسان وفطرته هو الحب، الحب لكل من حوله، ولا يكون البغض إلا للأعمال، نبغض العمل السيئ المشين، لكننا نحب الخير والهداية والصلاح للإنسان أياً كان.

 

اليوم نتحدث عن مفهوم يرتبط بالحب والبغض معاً، وهو مفهوم (العفو والصفح). يقول قدوتنا صلى الله عليه وسلم: “أوصاني ربي بتسع.. ومنها: أن أعفو عمن ظلمني، وأن أُعطي من حرمني”، ويقول سبحانه وتعالى: “والكاظمين الغيظ والعافين عن الناس”، ويقول كذلك: “وإن تعفوا وتصفحوا فهو خير لكم”.

 

والصفح أبلغ من العفو، فالعفو هو عدم المؤاخذة مع إمكان بقاء أثر ذلك في النفس، أما الصفح فهو التجاوز عن الخطأ مع محو أثره من النفس.. قال القرطبي في التفسير: “والعفو ترك المؤاخذة بالذنب، والصفح إزالة أثره من النفس، صفحت عن فلان إذا أعرضت عن ذنبه، وقد ضربت عنه صفحا إذا أعرضت عنه وتركته، ومنه قوله تعالى “أفنضرب عنكم الذّكر صَفحا”.

 

لماذا قال القرآن: “فهو خير لكم”؟ هل هو خيرٌ من منطلق المثوبة في الآخرة؟ نعم.. لكنه أكثر من ذلك، إنه بحق منفعة لصاحبه في الدنيا قبل الآخرة، والعلم الحديث يبصرنا بزاوية أخرى من الخير الذي يجنيه من يعفو ويصفح في الدنيا قبل الآخرة، فبناءً على أبحاث عديدة وجد الباحثون أن هناك علاقة وطيدة بين العفو والصفح وبين صحة الإنسان.

 

والواقع أن المشاعر السلبية مثل البغض وعدم العفو والصفح لمن نعتقد أنه ظلمنا أو حرمنا أو قهرنا تسبب تغييراً جوهرياً في مسار طاقة الحب الطبيعية في الجسم، مما يؤدي إلى تغيير في طريقة إفراز المواد الكيميائية والكهربائية في الجسم، وكذلك تعطيل الموجات الكهربائية في الدماغ، مما يجعل الإنسان أقل قدرة على التفكير بصورة واضحة واتخاذ قرارت صائبة.

 

عدم العفو والصفح ينهك الجهاز العضلي نتيجة التوتر العضلي المستمر ويزيد من نسبة الإصابة بالصداع وآلام المفاصل والدوخة والإحساس بالتعب والإرهاق وفقد التوازن، ويسبب آلاماً مزمنة في مناطق مختلفة بالجسم والتأخر في إصلاح الخلايا والأنسجة التالفة أو إصلاحها بطرق غير سليمة وإضعاف القدرة على الإصلاح والشفاء بشكل عام.

 

يقول مايكل باري في كتابه عن علاج الأمراض السرطانية: “إن فقدان القدرة على المسامحة هو في حد ذاته ظاهرة مرضية تؤثر سلباً على الصحة، خاصة إذا كان المرء مصاباً بأحد الأمراض المزمنة”، ويضيف باري: “إنه من المثبت علمياً أن التوتر العصبي نتيجة عدم المسامحة يضر بالجهاز الهضمي والأوعية الدموية والشرايين ونظام المناعة في الجسم”.

 

وضعف المناعة نتيجة الأحاسيس السلبية المدمرة من أهم عوامل الإصابة بالأمراض السرطانية، والتي هي في كثير من الأحيان بيد الإنسان ويستطيع التحكم فيها، ومنها العفو والصفح، ولذلك يقال إنه عندما نكظم غيظنا وغضبنا ولا نتبعه بالصفح، فإن الغضب الداخلي يتحول إلى غضبٍ كامنٍ خفيٍ خانقٍ، بمعنى أننا نبتلع (الغضب) الذي يسبب لنا أمراضاً نفسية وجسدية.

 

إن الأشخاص الذين يرفضون الصفح والعفو قد يعتقدون أنهم يعاقبون غيرهم، ولكنهم الوحيدون الذين يدفعون الثمن هم هؤلاء أنفسهم لعدم قدرتهم على العفو والصفح، وهم كذلك أشبه بالذي يتجرع السم ويتوقع بذلك أن يؤذي به غيره.

 

يقول بعضهم: “لكني لا أستطيع أن أعفو وأصفح، فهو أمر غير طبيعي”، ونجيب بـ(نعم)، فهو ليس بالتصرف الطبيعي وأنه فوق الطبيعي، لذلك قال القرآن الكريم: “ادفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم*وما يلقاها إلا الذين صبروا وما يلقاها إلا ذو حظ عظيم”. إنه عملٌ متعمدٌ مقصود أن أتخذ قراراً بالعفو وأن أدفع بالتي هي أحسن امتثالاً لأمر الله ورغبة في رضاه: “وما يلقاها إلا الذين صبروا*وما يلقاها إلا ذو حظ عظيم”، فإن فعلت وطوعت نفسك لذلك فإن الله سيُكرمك ويُلين قلبك ويملؤه حباً لمن حولك.

 

 

وعندما تدعو بالصلاح والهداية لمن اعتدى عليك وظلمك فإنك ستبدأ بالشعور تجاهه بالحب والرحمة التي كتبها الله له كما كتبها لك، وهذا الشعور حتماً سيحررك، ولكن يستحيل أن تنزع البغض دون أن تضع شيئاً آخر مكانه.. هذا الشيء هو الحب.. الحب للخالق والحب للمخلوق لوجه الخالق، عندها فقط يستطيع الحب أن يطرد البغض ويصبح العفو والصفح أيسر وأهون، وهذا هو الحظ العظيم الذي هو أقرب للتقوى “وأن تعفوا أقرب للتقوى”، وهذا أوجَبَ لصاحبه الرحمة “ورحمتي وسعت كل شيء فسأكتبها للذين يتقون”. وهذا أدعى بأن يجعل الله لك مخرجاً ويرزقك رزقاً حسناً “ومن يتق الله يجعل له مخرجاً ويرزقه من حيث لا يحتسب”.

 

إن الصفح الحقيقي الكامل يعني تحقيق تحول وتغير كامل باتجاه المعتدي، والتصالح الحقيقي بين اثنين لا يكون إلا بالصفح الحقيقي الكامل من الطرفين، وهذا الصفح الكامل لا يكون بدون الدعم الرباني الإلهي. يقولون إن العفو والصفح الرباني هو الترياق للبغض والغضب. قد تعتقد أنك لا تستطيع تحقيق ذلك، ولأني أؤمن أنك لو عرفت خالقك حق المعرفة وقررت أن تكون قوياً به ومتوجهاً بعملك له وخالصاً النية له، فإنك ستقدر بنفس الطريقة التي وسعتك رحمته بها في كل جزء من حياتك أن تبسط رحمتك للآخرين.

 

معظم الناس عندما يصلون إلى مرحلة العفو والصفح فإنهم يصفون تغيرات في مشاعرهم وتصرفاتهم وسلوكهم وأفكارهم ويشعرون بأن حملاً ثقيلاً قد أُزيح من على أكتافهم، وتختفي الرغبة في الانتقام ويفكرون بوضوح وصفاء ويغمر قلوبهم الحب والحنان والرحمة.. الرحمة التي وصفها د. مصطفى محمود بأنها أعمق من الحب وأصفى وأطهر، ففيها الحب والتضحية وإنكار الذات والتسامح والعطف والعفو والكرم، وكلنا قادرون على الحب بحكم الجبلّة البشرية، وقليلون هم القادرون على الرحمة: “فبما رحمةٍ من الله لنت لهم ولو كنت فظاً غليظ القلب لانفضّوا من حولك”.

 

إن عمل العفو والصفح والمسامحة ما هو إلا نتيجة أن الله قد اختارك ليعمل من خلالك وينشر الحب والخير على يديك، إنه عمل غير سهل وغير طبيعي.. إنه بحق عمل شاق ويحتاج إرادةً واعيةً ونيةً مخلصةً وصبراً وعزيمةً وعوناً من الله، وهو فوق الطبيعي ولذلك لا يُلقاها إلا الصابرون وأصحاب الحظ العظيم: “وما يلقاها إلا الذين صبروا وما يلقاها إلا ذو حظٍ عظيمٍ”.

 

 

 

لقراءة المقالة من صحيفة الوطن الرجاء الضغظ على الرابط أدناه :

 

http://www.alwatan.com.sa/Articles/Detail.aspx?ArticleID=14000