الفساد .. سرطان المجتمعات .. دائرة التحقيق في الممارسات الفاسدة

 

نكمل مقالنا معكم اليوم عن الفساد، سرطان المجتمع وقصة نجاح سنغافورة في محاربة الفساد على مدى ثلاثة عقود.

 

تغيرت الأحوال في سنغافورة عقب تولي حزب العمل الشعبي مقاليد الأمور والسلطة في البلاد في العام 1959 حيث اتخذت إجراءات صارمة ضد كبار المسؤولين الحكوميين الفاسدين وسرح أغلبهم من الخدمة بينما استقال البعض الآخر طواعية مخافة المساءلة القانونية والتحقيق. وازدادت ثقة المجتمع في دائرة التحقيق لإدراكهم أن الحكومة جادة في حملتها لمحاربة الفساد.

 

وفي عام 1996 أصدرت الحكومة قانوناً لمحاربة الفساد، وهذا القانون المناهض للفساد والمسمى «قانون منع الفساد» تمت دراسته بشكل دقيق ومستفيض وأُعطيت بموجبه صلاحيات واسعة لدائرة التحقيق في الفساد، كما تم تعزيز الإجراءات الجزائية ضد المفسدين، وبموجب الفصل 241 من قانون منع الفساد فقد منحت دائرة التحقيق في الفساد الصلاحيات اللازمة لمحاربة الفساد.

 

وفي عام 1989 تمت إجازة (قانون مصادرة الأموال والممتلكات) حيث أعطيت المحكمة صلاحيات تجميد ومصادرة الأموال والأصول التي حصل عليها المفسدون بأساليب غير مشروعة، وفي العام 1999 تم استبدال قانون مصادرة الأموال والممتلكات بقانون آخر هو (قانون الفساد والاتجار في المخدرات والجرائم الخطيرة الأخرى ومصادرة الممتلكات) وبموجب هذا القانون تم إدخال جرائم غسيل الأموال إضافة إلى منح المحكمة نفس صلاحيات تجميد ومصادرة الأموال والأصول.

وبموافقة المدعي العام وبسبب عدم استيفاء الأدلة الجنائية تمت إحالة الدعاوى المرفوعة ضد المسؤولين الحكوميين إلى رئيس الإدارة المعني لاتخاذ الإجراء التأديبي اللازم، كما تم إنشاء قسم للاستخبارات يتبع لقطاع التشغيل وعهد إليه بتجميع المعلومات السرية وإجراء البحوث الميدانية التي تدعم احتياجات قطاع التشغيل للتحقيق مع المفسدين.

 

وتشمل دائرة التحقيق أقساما ووحدات مختلفة مثل:

وحدة الإدارة: تضطلع هذه الوحدة بالمسؤولية عن الإدارة وشؤون الموظفين وتقديم خدمات الفحص والتدقيق للأقسام والإدارات الحكومية والهيئات التشريعية ووضع الخطط الاستراتيجية لدائرة التحقيق في الفساد.

وحدة المنع والمراجعة: تقوم هذه الوحدة بمراجعة إجراءات العمل في الأقسام والإدارات الحكومية التي قد يحدث فيها فساد، وذلك لتحديد نقاط الضعف في النظام الإداري والثغرات التي قد تسهل الفساد والممارسات السيئة ومن ثم تقديم التوصيات والإجراءات اللازمة لمنع الفساد.

وحدة أنظمة المعلومات والحاسب الآلي: تضطلع هذه الوحدة بمهام توثيق وإعداد المشروعات وحفظ المعلومات والبيانات في الحاسب الآلي ووضع الأنظمة لإدارة السجلات وتعزيز فعالية قطاع التشغيل.

وحدة الخطط والمشروعات: تشرف هذه الوحدة على الأعمال والواجبات الموكلة للموظفين والمتعلقة بالخطط والمشاريع والسياسات والإجراءات.

 

وقد ركزت دائرة التحقيق في الممارسات الفاسدة في مساعيها لاجتثاث الفساد على القطاع العام كما تركز اهتمامها بشكل خاص على المسؤولين عن تنفيذ النظام والقانون في القطاع الخاص إدراكاً منها أنهم وبحكم طبيعة مهامهم وواجباتهم أكثر عرضة لارتكاب جرائم الفساد، وأكدت الحكومة أن موقفها ضد الفساد واضح ولن تتردد في تقديم كل من يقترف الفساد للمحاكمة بصرف النظر عن مركزه أو مكانته.

 

وعلى الرغم من أن محاربة واجتثاث الفساد في القطاع العام يعد من أولويات المهام التي تطلع بها دائرة التحقيق في الممارسات الفاسدة إلا أن قانون منع الفساد خول لهذه الدائرة صلاحيات التحقيق في الممارسات الفاسدة في القطاع الخاص، عادة يتضمن فساد القطاع الخاص دفع أو استلام عمولات أو رشاوى غير مشروعة تبلغ قيمتها في بعض الأحيان مبالغ ضخمة، خاصة وأن من رجال الأعمال من يعتبر أن دفع العمولات غير المشروعة من الممارسات المتعارف عليها والمقبولة في مجال الأعمال التجارية. ويقصد بالعمولات غير المشروعة الرشاوى التي تدفع سراً وبطريقة غير نظامية للمستلم الذي لا يسمح له صاحب العمل باستلامها خلافاً للعمولات النظامية المستحقة له حسب شروط ونصوص الخدمة التي وافق عليها صاحب العمل صراحة.

 

فعلى سبيل المثال مندوب المشتريات أو المبيعات الذي يتقاضى عمولات أو رشاوى من الموردين، علماً بأن عمل مندوب المشتريات هو إيجاد وتحديد مصادر المواد والسلع المطلوبة وشراؤها نيابة عن الشركة أو المؤسسة بأفضل وأقل الأسعار المعروضة. وإذا استلم المندوب أية عمولات أو تسهيلات من الموردين فإنه يكون بذلك قد غلب مصلحته الشخصية على مصالح الشركة المخدمة له.

 

وقد اتخذت دائرة التحقيق في الفساد عدة إجراءات للحد من فرص الفساد خاصة في القطاع العام منها مراجعة أساليب العمل حيث يجري تحسين البطء في أساليب وإجراءات تنفيذ العمل تفادياً للتأخير في منح التراخيص والاعتمادات اللازمة حتى لا يتمكن المسؤولون الحكوميون في القطاع العام من استغلال مناصبهم وسلطاتهم لتحقيق مآربهم الفاسدة عن طريق الحصول على رشاوى وتقديم تسهيلات للجمهور والمراجعين ليتسنى لهم تنفيذ وإنجاز أعمالهم ومعاملاتهم.

وإعلان عدم المديونية حيث يتوجب على كل مسؤول حكومي تقديم تصريح علني كل عام بأنه غير مدين حالياً لأية جهة أو أحد وإلا سيكون عرضة للابتزاز ومدخلا لاستغلاله واستدراجه لقبول الرشوة والفساد.

 

وإعلان الأموال والممتلكات والاستثمارات حيث يلزم كل مسؤول حكومي أن يقدم بياناً كل عام بتاريخ تعيينه في المنصب الذي يشغله وأمواله وممتلكاته واستثماراته في البنوك والمؤسسات بما في ذلك الأموال والممتلكات العائدة لزوجته وأبنائه، كما يكون المسؤول الحكومي ملزماً بأن يعلن صراحة أنه ليس لديه أي ممتلكات خاصة كما عليه أن يوضح خلال أسبوع من شرائه أو امتلاكه لها، خاصة إذا كان يمتلك أكثر من عقار واحد أو لديه أسهم في مؤسسات أو مصارف خاصة إذا كانت قيمتها تفوق مرتبه ودخله الشهري وحينها سيكون عرضة للمساءلة القانونية عن مصدر ثرائه وكيفية اقتنائه لتلك الممتلكات بما يضمن عدم تضارب مصالحه الخاصة مع المصلحة العامة.

 

وخلاصة القول فإن الفساد أصبح ليس أسلوباً للحياة في سنغافورة ومن ناحية عامة، بل لا يمكن للسنغافوريين غفرانه أو التغاضي عنه، وإن الجهود التي يبذلها القادة السياسيون ومسؤولو الخدمة العامة والقائمون على دائرة التحقيق في الفساد لمحاربة الممارسات الفاسدة علاوة على الانتقادات الشديدة والتشهير الذي يحدث للمفسدين في أجهزة الإعلام قد جعل السينغافوريين ينظرون للفساد ويعتبرونه عملا إجراميا مشينا لا يرغب أحد في اقترافه.

 

لقد عملت دائرة التحقيق في الفساد والممارسات الفاسدة في المحافظة على القيام بالمهام والأعمال المنوطة بها مع أخذ الحيطة والحذر واتخاذ الإجراءات الصارمة والعقوبات الرادعة لمحاربة الفساد والمفسدين مما أدى إلى اجتثاث الفساد وخلو سنغافورة من أية ممارسات فاسدة.

وبذلك استطاعت سنغافورة على مدى ثلاثة عقود أن تنتقل من أسوأ بلاد العالم فسادا إلى أكثرها نزاهة حيث حصلت على أفضل درجات في التقرير والمؤشر الدولي لمحاربة الفساد الاقتصادي (منظمة الشفافية العالمية) حيث أن معظم الدول النامية تحتل مراتب متأخرة، ومثال ذلك احتلال كل من نيوزيلندا والدنمارك وسنغافورة وسويسرا قائمة أقل الدول فساداً اقتصادياً (أعلى درجات النزاهة) من المراكز الأولى (1-4) في حين أن دولة مثل مصر احتلت المركز 115 من 180 دولة.

 

وإننا كلنا أمل بأن القرار السياسي الحازم الذي اتخذه قائدنا ومليكنا الغالي ضد الفساد والمفسدين، وما تمخض عنه من أمور كثيرة تطالعنا بها الصحف كل يوم سيسارع في انتقال بلادنا الغالية من المرتبة التي نصنف بها الآن إلى المراتب الأولى خلال عقد من الزمن أو أقل بإذن الله.

 

 

عكاظ  لقراءة المقالة من صحيفة عكاظ الرجاء الضغط على الرابط أدناه :

http://www.okaz.com.sa/new/Issues/20100706/Con20100706360014.htm