الفساد .. سرطان المجتمعات .. قصة نجاح سنغافورة

تحدثت في مقالي السابق عن فساد المجتمعات وشبهناه بسرطان المجتمع وأوضحنا أوجه الشبه والتوافق بين الفساد والسرطان، ووعدنا أن نعرض عليكم في مقالنا هذا قصة نجاح سنغافورة وهو نموذج لدولة أستطاعت على مدى ثلاثة عقود أن تنتقل من دولة ثالثة الى دولة أولى ومن أكثر الدول فساداً الى أقلها وأنظفها.

 

بدأت محاربة الفساد في سنغافورة بالقرار السياسي الذي أطلقه رئيس وزراء سنغافورة منذ توليه الحكم في قوله(اننا لاننظر لعملية السيطرة على الفساد على انها مجرد قضية أخلاقية وليس فضيلة وإنما حاجة  وإن المحافظة على ان تبقى نظيفاً وتنبذ الأشخاص القابلين للرشوة يعد من المبادئ القيادية للحكومة. ويفسر السيد شوسيرياك مدير دائرة التحقيق في الممارسات الفاسدة في سنغافورة في المؤتمر المنعقد في الصين عام 2002م بعنوان تعزيز التكامل ومحاربة الفساد ماذا يقصد بالقرار السياسي فيقول: (يوفر القرار السياسي الأساس لبذل كل الجهود والمساعي لمجابهة الفساد ويشكل كل الأسس الهامة   والبنيات الأساسية الفوقية التي يعتمد عليها كل العمل المناهض للفساد كما يوفر التربة الصالحة      والعناصر المغذية التي تساعد على بذر بذور العمل المناهض للفساد حتى ينمو إلى شجرة راسخة الجذور، ولكن ينبغي ألا يكون القرار السياسي مجرد خطب وشعارات دينية جوفاء فالعبرة بالأعمال وليس الأقوال وإلا سيكون القادة السياسيين قد وضعوا أنفسهم تحت المجهر وأصبحوا بذلك عرضة للمساءلة.كما أنهم يدركون تماماً أنهم إذا كانت بيوتهم من زجاج فلن يستطيعوا أن يقذفوا حجراً واحداً في وجه الظلم والفساد.إن الأمر ببساطة يتطلب رجالاً أمناء ليقدموا أعمالاً مخلصة ونزيهة تكريساً للسلطة الأخلاقية, فالأعمال المخلصة هي بكل تأكيد التعبير النهائي للقرار السياسي للسيطرة على الفساد. وقد شرعت الحكومة في إزالة كل العقبات التي تواجهها فالقوانين الضعيفة تقوى عندما تُطوع وتُسخر لدعم الأقلية من النخب الحاكمة لخدمة مصالحهم الفاسدة حيث يقوموا بتعبئة وتحريك الشعب والمجتمع والمؤسسات المدنية وكل أجهزة الدولة بما فيها الجهاز القضائي لمحاربة الفساد حيث لا تعارض في المقاصد وتصبح هناك وحدة في الهدف والعمل والقصد والتفكير والرأي وكأنهم مدفوعين في ذلك بمرسوم ملكي أو أمر إمبراطوري سام.

 

وانطلاقاً من المقصد السياسي الكبير أنشأت الحكومة دائرة التحقيق في الممارسات الفاسدة – CPIB وكأنها  بذلك تدعونا لاستنهاض الوكالة غير الفعالة في مناهضة الفساد الموروثة من المستعمر ومساعدتها في محاربة الفساد وبذلك أصبحنا إحدى الأدوات العديدة في ترسانة الحكومة لمحاربة الفساد.ولكن قد تكون دائرة التحقيق في الفساد ما هي إلا فكرة ولدت ميتة  وما كان لها أن تنشط لولا القرار السياسي واالمباركة التي تلقتها من الحكومة.ولكن لم تخلق دائرة التحقيق في الممارسات الفاسدة نتيجة لحاجة المجتمع لها لمحاربة الحكومة الفاسدة لكنها بالأحرى أُنشأت من قبل حكومة غير فاسدة لمحاربة الفساد في المجتمع. ولم تكن هذه الدائرة حركة مجتمع مدني لمحاربة حكومة فاسدة ولو كان الأمر كذلك لما نجحنا في تحقيق هذا الهدف. وخلافاً للوكالات العديدة التي نمت من الحاجة لمحاربة مؤسسة فاسدة ما كان لنا أن نعمل بشكل مناهض للحكومة والخدمة المدنية بكاملها.ولكن هل حركات المجتمع المدني أو المؤسسات الوطنية ضرورية للنجاح في محاربة الفساد في سينغافورة؟ في الحقيقة لم تكن ضرورية وإلا لأصبح ذلك اتهاماً لفعالية دائرة التحقيق في الممارسات الفاسدة إذا قُدر لهذه المنظمات أن تترسخ. على أن المنظمة الحكومية الوطنية ما هي إلا مجرد أداة في أيدي جماعات الضغط التي أنشأها أولئك الأفراد الساخطين على وضع الفساد الذي استشرى في البلاد.

 

 ونتيجة لقوة عزيمة القرار السياسي لمحاربة الفساد أصبح ثمة رغبة ملحة لإنجاح جهود ومساعي محاربة الفساد.وقد أشارت الحكومة إلى هذه الناحية وقد بدا ذلك واضحاً من خلال احكام الحكومة لسيطرتها الكاملة على الحركة المناهضة للفساد وأصبحت دائرة التحقيق في الممارسات الفاسدة تتبع مباشرة لرئيس الوزراء حتى تقطع الطريق على أية تدخلات غير لائقة.وبوضعها تحت حماية ورعاية مكتب رئيس الوزراء تمكنت دائرة التحقيق في الممارسات الفاسدة من أن تعمل بدون خوف أو تحيز أو محاباة لأية جهة.وفي الحقيقة في عام 1992 أصبحت الدائرة مستقلة في أدائها الذي كفله لها الدستور وتمكنت من اتخاذ بعض الإجراءات ضد بعض الوزراء وموظفي الخدمة المدنية.

 

إن العبء الذي تنطوي عليه فرضيتي هو أن الأمر يصبح أكثر سهولة عندما تكون لدينا حكومة جيدة ونظيفة تدير نظاماً جيداً ونظيفاً من أن تكون لدينا وكالة جيدة مناهضة للفساد يوكل لها تنظيف حكومة فاسدة ونظاماً فاسداً. ففي الحالة الأخيرة تكون النتيجة متوقعة تقريباً. ومن الأرجح أن تنجح الوكالة المناهضة للفساد بشكل حسن في أداء مهامها.ومن الواضح أن أغلب الحكومات سيكون لديها قدراً كافياً من السلطة للهيمنة حتى على أقوى الوكالات والأكثر مناهضة للفساد.وبذلك يمكنها أن تفسد الجهود التي تقوم بها أية وكالة مناهضة للفساد. ولهذا فنحن في دائرة التحقيق في الممارسات الفاسدة بمقدورنا أن نصبح أكثر فعالية بالقدر والكيفية التي ترغب فيها الحكومة. فدائرة التحقيق لديها الهياكل والأنظمة والإجراءات إذا سمح لها أن تعمل وأُعطيت البيئة التشغيلية الصحيحة التي يخلقها القرار السياسي القوي.لقد نجحنا إلى حد كبير في تنفيذ قرار الحكومة. وقد ساعدنا في خلق نظام قوي مناهض للفساد وكذلك بغض الشعب والمجتمع لهذا الفساد. ومهما يكن من أمر, فهذا لا يعني أننا قد وصلنا لنهاية المطاف آخذين في الاعتبار أن الإنسان غير معصوم عن الخطأ.إن الإنسان بطبعه مولع بالاكتساب خاصة الأشياء التي يمتلكها الآخرون.وبينما نجد أن غالبية الناس يتوافقون مع النظام إلا أن هناك القلة المخالفة للنظام التي تجد في ذلك ضرورة لإشباع جشعهم أو رغباتهم.

 

إذاً هل هناك من معادلة بسيطة للسيطرة على الفساد؟ قال أحد المسئولين الصينين القدماء ذات مرة أن الفساد هو نتاج رجال فاسدون وقوانين فاسدة.فإذا كانت هذه المقولة صحيحة فالمعادلة بسيطة وبمعنى آخر فالتصحيح بسيط … رجال صالحون وقوانين صالحة, فليكن لدينا رجال صالحون في الحكومة وليحمهم القرار السياسي وعندئذ سيكون لديهم الدافع الكافي بوصفهم حملة الرسالة المناهضة للفساد لسن ووضع القوانين الصارمة الرادعة للمخالفين. إذا حاد بعض الضالين عن الجادة يمكن تقويمهم والاستفادة منهم من خلال القوانين الملائمة حتى يصبحوا مواطنين صالحين).

 

وسنفصل في المقال القادم ان شاء الله تاريخ انشاء دائرة التحقيق في الممارسات الفاسدة في سنغافورة وطريقة عمله ووحداته ونجاحاته في القضاء على الفساد.