المفهوم الشمولي للعلاج…جسداً وعقلاً وروحاً

بالتجربة أدركتُ مدى الحاجة لبرنامج يؤهل الطبيب ليقوم مجدداً بدور “الحكيم” الشمولي للشفاء.

الإنسان جسد وعقل وقلب وروح، وتحقيق الشفاء للمريض يتعين ويستلزم، بل يستوجب، أن تُؤْخَذ كل هذه العناصر بعين الإعتبار، وقد جاء الطب الحديث ليؤكد أنه لا غنى عن تطبيق هذا المفهوم الشمولي من أجل تحقيق الشفاء للإنسان. وبهذا المفهوم الشمولي لعلاج الإنسان بنى أجدادنا وعمالقة وعلماء علم الطب أساس التطبيب قبل مئات السنين ومارسوه وكتب عنه ابن سينا في كتابه «القانون في الطب»، الذي ظل مرجعاً رئيسياً يدرس في كليات طب أوروبا على مدى 500 عام.

ولكن الذي حدث خلال القرن الماضي هو الفصل بين هذه العناصر، فالطبيب يطبِّب ويعالج الجسد فقط، بل وأثناء دراستي للطب في جامعة جورج واشنطن في الولايات المتحدة الأمريكية في منتصف الثمانينيات كان من المحظور أن يحاول الطبيب تلبية الإحتياج النفسي أو العاطفي أو الروحي عند المريض ويعتبر ذلك مخالفاً لسلوكيات المهنة .

وسبب هذا الفعل المصطنع والمخالف لأبجديات التطبيب والإستشفاء هو الطَّلاق والفصل الذي تم في الغرب بين الدين والعلم بمحاكمة غاليليو وغيره من العلماء في ذلك العصر، وسيطرت الكنيسة لفترة وجيزة على العقل وهمَّشت دور العلم ليجيء بعدها عصر الهيمنة العلمية في أوروبا ليُفصل العلم عن الدين ويصبح العلم بما فيه الطب يتعامل مع المادة، ففي الطب أصبح التركيز على علاج الجسد وإهمال دور العقل والروح في العلاج والشفاء.

تأكيد المفهوم الشمولي
ولكن في العقد الماضي ومع أواخر الثمانينيات وبداية التسعينيات الميلادية بدأت الأبحاث والدراسات تشير إلى دور العقل والروح في تحقيق الشفاء والعلاج عند المريض، ومن هذه المؤسسات الرائدة مؤسسة في بوسطن والتي كان لي فرصة أخذ دورة مكثفة فيها تسمى معهد العقل والجسد وهي تابعة لكلية طب جامعة هارفارد وتقوم بدراسة دور العقل والروح في علاج الأمراض والأسقام على أسس علمية دقيقة واستنباط بعض الممارسات التي يمكن أن تساعد على الشفاء وتُعتمد من كلية طب جامعة هارفارد إذا تحققت فيها واُسْتُكْمِلَتْ الشروط الدقيقة المتعارف عليها في البحث العلمي.

وفي هذا المعهد يبحث عن كل الممارسات التي تساهم في الشفاء فعلى سبيل المثال يؤكد الدكتور بنسون وهو مؤسس هذا المعهد، يؤكد ما للتسبيح عند المسلمين من تأثير والذي يؤدي إلى حالة ارتخاء صحي من خفض لدقات القلب وضغط الدم وارتخاء العضلات وخفض أنشطة الدماغ، بما في ذلك فوائد جمة على أعضاء الجسم كله ويؤدي إلى خفض نسبة الإصابات بالذبحة الصدرية والدماغية ولغط القلب والضغط وغيره من الأمراض المزمنة الفتاكة.

وبدأت الكليات الطبية الرائدة في الغرب تتحدث مرة أخرى عن وجوب التعامل مع المريض كجسد وعقل وروح..

أما الجسد .. فيقتضي الاهتمام به تطبيق أفضل المعايير الطبية العالمية في العلاج بتدريب الكوادر الطبية من طبيب وممرض وغيره.

وأما الأجهزة فيقتضي اقتناء أفضل الأجهزة المتطورة التي تساعد على التشخيص الدقيق.

وأما سياسات العمل والقوانين المتبعة فتقتضي اتباع أفضل القوانين التي تضمن السلامة للمريض والجودة الشاملة وتحول دون الخطأ البشري المتوقع نظراً لطبيعة الإنسان الذي خُلق وجُبل على الخطأ.

وتصميم المستشفى بأحدث وسائل التقنية من غرف للعمليات وللطوارئ وللعناية المركزة إلى غير ذلك، وعدم التهاون أو التساهل في الأخذ بالأسباب المتاحة التي تساعد على تحقيق العلاج، والإيمان بأن التقصير في أخذ أي من هذه الأسباب واغفال سبب مع العلم بدوره في تحقيق العلاج خيانة للأمانة التي أوكل بها المعالج.

أما العقل.. فيقتضي احترام عقل المريض وجعله جزءاً لا يتجزأ من العلاج فيُشرح للمريض بالتفصيل ماهية المرض وطرق التشخيص وخيارات العلاج وإيجابيات وسلبيات كلٍ من هذه الخيارات ليصبح المريض هو صاحب القرار متى ما اجتمعت له المعلومات واكتملت لديه الصورة، ويُحترم هذا القرار، فالمريض يملك جسده ولديه عقل يفكر به وفي أول الأمر وآخره هو الذي سيعيش مع هذا القرار وتبعاته ونتائجه، وتثقيف المريض عن المرض هو جــزء لا يتجزأ من دور المعالج الطبيب بل ويتعداه إلى تثقيف عائلة المريض عن المرض وكيفية دعم ومساندة المريض أثناء المرض أو النقاهة أو تفادي تكرار المرض أو حدوث مضاعفات وتبعات العلاج على حسب المرض والعلاج، وفي حالة الأطفال الصغار فيستعاض بذلك في جعل الأبوين هما صاحبا القرار باتباع نفس الأسلوب.

والإستثمار في رفع الوعي الصحي عند المريض وعائلة المريض يقتضي توفير الأدوات والوسائل التعليمية والتثقيفية في كتيبات سهلة القراءة والفهم مبسطة وفي نفس الوقت شمولية ومنسجمة مع البيئة والخلفية الثقافية والإجتماعية والأخلاقية والدينية في المجتمع،وتقديم الدورات التعليمية والتثقيفية والتدريبية للمريض وعائلته.

ويقتضي كذلك تدريب وتأهيل الكوادر الطبية وتطوير قدراتها على إيصال المعلومة وتعليم وتثقيف المريض وعائلته وأن يصبح جزءاً من تعليم هذه الكوادر الطبية، وأن تصبح قدرة الطبيب والممرض على تعليم وتثقيف المريض وعائلته جـزءاً رئيسياً من التقييم الدوري للطبيب والذي يترتب عليه تقدير المعالج ومكافأته..

أما الروح.. فينخرط تحتها مدى قدرة الطبيب المعالج، بغض النظر عن تخصصه، تلبية عند الاحتياج النفسي والعاطفي والروحي عند المريض، حيث إن الأبحاث والدراسات تتزايد كل يوم لتؤكد ما لنفسية المريض من دور رئيسي في تحقيق الشفاء، وقد كنا في السابق نشير إلى العامل النفسي بكلمة ، واليوم يطلق عليه الكثيرون بالعامل الإيماني ، وهذا العامل يعتبر عاملاً مهماً وفعالاً ورئيسياً في تحقيق أكبر قدر من تأثير العلاج على المريض ليتحقق الشفاء بإذن الله.

فإيمان المريض بإمكانات الطبيب على العلاج هو جزء وعامل رئيسي لتحقيق العلاج، وإيمان المريض بفاعلية الدواء هو جزء وعامل رئيسي لتحقيق أكبر قدر من التأثير الإيجابي من الدواء والعلاج. وإيمان المريض قبل كل هذا بقدرة الله على شفائه ويقينه بأن الله سيجري الشفاء على يد هذا الطبيب في هذا المكان وبهذا الدواء، هو في حد ذاته يعد جزءاً مهماً وعاملاً رئيسياً لتحقيق الشفاء.

للطبيب دور
وقد أدركت قبل سنوات مدى تقصير الطبيب اليوم في تأهيل نفسه لتلبية الحاجة النفسية والعاطفية والروحية عند المريض، وكان ذلك أثناء زيارة أحد العلماء الدعاة لأحد مرضاي في بوسطن، دخل العالِم على المريض ورآه ساكناً تعلوه كآبة وتظهر على وجهه سمات الإنقباض فأخذ العالِم يتحدث إليه قرابة النصف ساعة أو يزيد.. عن ماذا؟.. هل تحدث معه عن الصبر؟.. أو عن احتساب الأجر؟.. لا.. وإنما تحدث معه عن فضل المرض ومكـــانة المريض عند الله وهو على فراشه الأبيض.. عندها أدركت مدى الاحتياج لبرنامج يؤهل الطبيب ليقوم بالدور الذي كان يقوم به سابقاً عندما كان يلقب بالحكيم لما يجتمع فيه من علم وحكمة.

كم من أطباء اليوم يحفظ من كتاب الله والأحاديث الشريفة ما يسلِّي به المريض ويُصبره ويَرفع من معنوياته ويثبته ويبث فيه روح الأمل والكفاح والإيمان برحمة الخالق حتى يزيل عن المريض أي شك في أن الله الرحيم سيرحمه ويسعفه بالشفاء وأنه سبحانه بيده كل شيء إذا أراد للشيء أن يكون.. قال له كن فيكون..؟ سأدع الإجابة عن ذلك لزملائي الأطباء.

عناصر أخرى للشفاء
إن تلبية الإحتياج النفسي والعاطفي والروحي يقتضي كذلك أن تصمَّم المشافي والمستشفيات باتباع مبدأ الشفاء بالتصميم، حيث إن هناك عناصر معينة تساهم وتساعد على الشفاء، مثل الإضاءة الطبيعية في كل غرفة من غرف المرضى، والإكثار من المناطق المزروعة بالأشجار والزهور والحدائق، والفناء الداخلي الذي يتيح للمرضى وأهليهم التنفيس عن أنفسهم داخل المستشفى دون الحاجة إلى الخروج منها للتنفيس والترويح، وانتقاء الآيات القرآنية والأحاديث الشريفة في الأماكن المناسبة لها، بعد دراسة الإحتياجات النفسية والروحية للأشخاص الذين سيوجدون في هذه الأماكن في المستشفى. والحرص على إعطاء المسجد حقه، كأن يكون في قلب المستشفى تصلى فيه الصلوات الخمس جماعة ويجد أهل المريض، والمريض الزائر في المسجد المأوى والملجأ إذا ضاقت به نفسه فيدخل المسجد ويخرج من كل ماعداه فيصبح المسجد في المستشفى ولكن السماء فيه.. كل ذلك له تأثيره العظيم على تحقيق الشفاء عند المريض وإعانة عائلة المريض على دعم مريضهم.

إن المفهوم الشمولي للعلاج من معاملة المريض كجسد وعقل وروح يتعدَّى في أيامنا هذه التطبيق في علم الطب إلى التطبيق في كل مجالات الحياة، وأدق ماكُتِبَ في هــــذا الســياق كتاب بعنوان العادات الثمانية لـ ستيفين كوفي والذي يتحدث فيه عن العصر الجديد وما أسماه بعصر الحكمة، وفيه يفصِّل كيف تكون تلبية الإحتياج الجسدي والعقلي والروحي للعاملين في المؤسسات أو أفراد العائلة من أجل تحقيق أفضل مردود على مستوى الفرد والأسرة والمؤسسة والشركة والمجتمع، وجُلّ ما قيل إنما يخرج من مشكاة النبوة وينسجم انسجاماً كاملاً بقيمنا الإسلامية.

ويؤكد فيه أن معاملة الإنسان بشموليته من جسد وعقل وروح سيكون له مردود عظيم في زيادة إنتاجية الفرد في المجتمع عشرات الأضعاف عن الإنتاجية الحالية في عصر المعلومات والمعرفة،

وكما تطور الإنسان من خلال تاريخ الإنسانية من عصر الصيد إلى عصر الزراعة إلى عصر الصناعة إلى عصر المعلومات والمعرفة، وكما ازدادت فعالية الفرد والإنتاجية من عصر إلى آخر ما يعادل خمسة أضعاف فإن الإنتاجية كذلك ستزداد في الإنتقال من العصر الحالي إلى عصر الحكمة،

ولكن الإنتاجية لن تزداد خمسة أضعاف وإنما عشرات الأضعاف، حيث إن احترام عقل وجسد وروح العاملين وتلبية احتياجاتهم سيساعد على إطلاق قواهم المكنونة وبذل الرخيص والغالي، فيصـبح – مثلاً – هدف الفرد في المؤسسة هو تحقيق حلمه الفكري والإجتماعي والأخلاقي من خلال تحقيق أهداف المؤسسة وغاياتها النبيلة، وكذلك الحال في كل مجالات الحياة، وهذا المفهوم في صلبه وروحه مفهوم إسلامي خالص.

وكما كان في كل نقلة انتقلها الإنسان خلال تاريخه الإنساني من أوائل وقيادات تقدم النموذج، مثل الإنتقال من عصر الصناعة إلى عصر المعلومة والتكنولوجيا فإنه سيكون هناك أوائل وقيادات تقدم النموذج الشمولي لمعاملة الإنسان جسداً وعقلاً وروحاً في كل من تخصصات الحياة.

النماذج الجديدة
سيصعب في بادئ الأمر أن يتقبل سواد المجتمع هذا المفهوم، وهذا طبيعي ومتوقع وسببه قلة المعلومة وعدم وضوح الرؤية المستقبلية تماماً عند سواد المجتمع، كما كان الحال في الإنتقال من عصر الصناعة إلى عصر المعلومة والتكنولوجيا،

وإنني شخصياً مازلت أذكر محاضرة في جامعة في بوسطن لأحد رواد عصرنا هذا (عصر المعلومة والمعرفة) يلقي محاضرة في منتصف الثمانينيات عن شيء أسماه آنذاك الإنترنت بخصائصه التي نعلمها اليوم بداهة، وكانت آنذاك أشبه ما يكون بالخيال والحلم، وإنني مازلت أذكر كأنه البارحة ما أثارته المحاضرة من إعجاب القليل وسخرية الكثير ممن كانوا سجناء عصرهم ولم يستطيعوا أن يخرجوا من الحيز الضيق لحاضرهم إلى فضاء التطبيق الرحيب للمستقبل.

إنني أؤمن بأن عصر تطبيق التعامل مع الإنسان بشمولية كجسد وعقل وروح قد بدأ، وأحقّ تخصص ومجال من مجالات الحياة يستحق أن يقدم النموذج للعالم هو مجال التطبيب والعلاج فمُعظم التخصّصَات تتعامل مع صنع الإنسان وابتكاراته واختراعاته وفكره وعطائه إلا علم الطب فإنه يتعامل مع صنع الله (الإنسان)، أقدس وأعظم ما في الأرض بما يحمله بين أضلعه من روح الله وبما أوكل له في الأرض بإذن ربه من الإستخلاف وعمارة الأرض.

فإذا مرض الإنسان وَجَبَ على من شَرّفه الله بعلاجه من البشر أن يتعامل مع هذا الإنسان جسداً وعقلاً وروحاً، وفي هذا تكريم للإنسان وأخذ بأسباب الشفاء واتباع لسنَّة الله في خلق الإنسان، وبالإجتهاد في أخذ الأسباب الصحيحة وتنقية النية وتجريدها ومعاملة المسبب مدعاة لاستحقاق فضل الله بأن يجري الشفاء على يد المعـالج فيكون الشفاء بإذن الله.