“المكوث للأنفع” وليس “البقاء للأقوى”

أصبحنا نعيش في عالم تسيطر عليه الماديات ليصبح حدود إيمان الإنسان وإدراكه بحدود حواسه الخمس، ولا مكان فيها لما وراء الماديات من عالم الغيبيات. وقد نتفهم ذلك من حضارة أو دين جذورهما ماديّة بحتة، أما في الدين السماوي فهذا يتعارض مع جذور الفكرة الغيبيّة التي قام عليها الدين، وهذا المعنى نجده متأصِّلاً في أهم كلمة في دين الإسلام “أشهد أن لا إله إلا إلله” كما يشرحها الدكتور أحمد خيري العمري في كتابه (الفردوس المستعار والفردوس المستعاد).

 

أشهد أن لا إله”.. نفيٌ للرؤية المجرّدة القاصرة لأي شيء من الآلهة سواء تمثّلت في المال أو السلطان أو غير ذلك.

 

إلا الله”.. إثبات للمشاهدة، ولكنها مشاهدةٌ ليست عينيّة، وإنما شاهد عقلٍ وشاهد بصيرة، إدراك يتجاوز حدود الحواس الخمس إلى ما وراءها.. شهادةٌ تتجاوز المكان والزمان بيقين لا يُشبَّهُ هنا بيقين من رأى حقاً بحواسه الخمس، فتلك شهادة أكبر من كل تلك الحواس.

 

ونجد صوراً كثيرة في تاريخ هذا الدين العظيم تؤكد هذا المعنى، فنجد أن الهجرة في الإسلام من مكة إلى المدينة لم تكن هجرة من أجل المادة أو المال أو شيء من متاع الدنيا، بل لقد تركوا الدنيا وراءهم وضحّوا بها من أجل فكرة “لا إله إلا الله” الغيبيّة، وذلك على عكس كثير من الهجرات في تاريخ الإنسانية ذات الجذور المادية البحتة مثل هجرة الأوروبيين إلى أميركا مع اكتشاف كولومبوس لها.

 

ومن الصور الأخرى في تاريخ هذا الدين العظيم بجذوره الغيبية رحلة سيدنا إبراهيم مع زوجه هاجر وابنه إسماعيل عليهما السلام ليتركهما هناك في قلب الصحراء الجرداء الخاوية الخالية من أي مقومات للحياة، وليضع نواة هذه الحضارة الجديدة ذات جذور الفكرة الغيبية في رحم الصحراء ليكون المقوّم الوحيد لنهضة هذه الحضارة وميلادها تلك الفكرة الغيبية، وليس ما يُتوَقَّع من مقومات نشوء الحضارات من ماء وزراعة وغيرها.

 

وقد فهم الأولون معنى “لا إله إلا الله”.. وجاء التطبيق في حياتهم كلّها، فأنشأ الرعيل الأول ممن تتلمذوا على يد خير الأنام سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم قواعد حضارة عظيمة وحققوا في زمن قصير ما يصعب تفسيره في عالم الماديات وحدود الحواس الخمس، فكانت هذه هي مرحلة الروح في المستوى النفسي الاجتماعي للحضارة الإسلامية في دورة الحضارة التي وصفها مالك بن نبي في كتابه (مشكلة الأفكار في العالم الإسلامي)، ولكن عندما طغت المادة على الحياة، بدأ السقوط في مرحلة الغريزة في دورة الحضارة.

 

إن تأصيل مفاهيم المادية وتعميق وسائل ممارستها في حياتنا اليومية التي تغذيها شتى الوسائل الإعلامية قيَّض أهم قواعد هذا الدين في عقول المسلمين ألا وهي قاعدة الإيمان بالغيبيات، فأصبح المسلم يقيم الأمور بالنظرة المادية البحتة أو (البراغماتية).. وهنا يكمن الداء العضال، حيث إن البراغماتية تقيّم الأمور بنفعها الآني، وترتبط بالمادة والمصلحة الفردية، وبذلك يُنظر إلى النتائج المرتبطة بحياة الإنسان القصيرة لا بالخواتيم.. وشتان بين النتائج الآنية وخواتيم الأمور التي ترتبط بالغيب وتتخطى الزمان والمكان إلى مفهوم “الآخرة“.

 

والقرآن الكريم حريصٌ على تذكير المسلم بهذا المفهوم الخطير وتعميقه فكراً وممارسةً بشتى الطرق.. ومنها القصص القرآني، ومثال ذلك ما نقرؤه في سورة سُمِّيت بأصحاب هذه القصة التي تعمق هذا المعنى.. إنها سورة (الكهف).

 

إن وقوف الفتية في وجه المؤسسة الطاغية المستبدة آنذاك يتعارض مع مفهوم (البراغماتية)، بل يعد صورة من صور التهور والانتحار إذا قيس بمعايير البراغماتية والحواس الخمس والنتائج المتوقعة في عمر الإنسان القصير، بل وقد يعتقد من عاش في ذلك الوقت أن هؤلاء الفتية قد قُتِلوا وانتهى أمرهم للأبد لأن (البقاء للأقوى)، ولكن الله أراد أن يُذَكِّرنا بخطأ هذا المفهوم في قرآن نقرؤه إلى يوم القيامة، ليجعل الفتية يأوون إلى الكهف ويضرب الله على آذانهم سنين عدداً ليبعثهم سبحانه بعد ثلاثمائة وتسع سنوات؛ فيستيقظوا وهم في نضارة الشباب ليجدوا أن قومهم قد آمنوا كلهم، ثم يموتون ويعثر عليهم قومهم، ويكون عنوان هذا الدرس “لنتخذن عليهم مسجداً”، وليكون هذا شعار البقاء والتخليد لصنيعهم.. نعم إنه (المكوث للأنفع) وليس (البقاء للأقوى).

 

والفرق بين (البقاء للأقوى) و(المكوث للأنفع) هو الفرق بين الإيمان بالدنيا والإيمان بالآخرة، وكما أوضح الدكتور أحمد خيري العمري في كتابه السابق الذكر فإن نظرية البقاء للأصلح أو الأقوى لم تقتصر تنظيراً على نظرية داروين للتطور ولكن الأخطر منها ما أسماه بـ (الداروينية الاجتماعية) أي نظرية أن الانتقاء الطبيعي ليس حقيقة بيولوجية فحسب، بل اجتماعية كذلك.

 

وبذلك قدم الإطار الفلسفي لإعدام الضمير ولتسوغ عملية الانتقاء الاجتماعي (البقاء للأقوى أو الأصلح) القضاء على كل من لا يستحق البقاء، وهي نظرية هربرت سبنسر في مطلع القرن العشرين الذي استقبلته الرأسمالية بكل حفاوة لتجعل المحور الأساسي لحضارة الغرب هو التنافس على البقاء بأي طريقة.

 

أي أن الذي دعا إليه سبنسر أخطر بكثير من حشرات داروين وفرضياته وهو التطبيق الاجتماعي لنظريته. نعم لم تستطع نظرية داروين وحشراته أن تمرر لنا ولكن ما هو أخطر منها هو التطبيق الاجتماعي لنظريته التي أتى بها سبنسر، تسربت لمجتمعاتنا بالتدريج لتغير الفكرة والسلوك والقيم وليتحول مجتمعنا كباقي المجتمعات الإنسانية إلى غابة يفترس القوي فيها الضعيف، وتقيم الأمور على أساس النتائج الآنية التي ترى في حياة الإنسان (البراغماتية) لا مفهوم (المكوث للأنفع) القائم على أساس الإيمان بالغيبيات والقيام بالعمل الذي يجب على المؤمن أن يقوم به، سواء كانت كلمة حق تقال أو موقف لا بد أن يكون، وإن بدا أنها لن تثمر في حياة قائلها، لكنها في الحقيقة أشبه ما تكون بفسيلة خير استودعها صاحبها الأرض للنفع إيماناً بأنها ستثمر، سواء كان ذلك في حياته أو بعد مماته وإن مكثت تحت الأرض عقوداً من الزمان دون إثمار.

 

المعركة الحقيقية القادمة لإعادة دور أمتنا في توجيه الإنسانية لنهج السماء لن تكون معركة تقليدية كباقي المعارك على أراض جغرافية أو على موارد طبيعية، وإنما هي معركة ستدور هناك في أخطر مكان على وجه الأرض ومن عليها.. إنها في عقل الإنسان المسلم وطريقة تفكيره وتحريره مما أصابه من لوثةٍ ماديّة وبعد عن المفاهيم الغيبية التي هي حجر أساس هذا الدين العظيم (لا إله إلا الله) ليعود شعار المسلم كما كان (المكوث للأنفع) لا (البقاء للأقوى).

 

 

  لقراءة المقالة من صحيفة الوطن الرجاء الضغظ على الرابط أدناه :

http://www.alwatan.com.sa/Articles/Detail.aspx?ArticleId=13330