الوطنية الصحيحة

خلق الله الإنسان وأمده بثلاث وسائل يستطيع بها تغيير نفسه وتغيير من حوله، وهذه الوسائل الثلاثة هي القلب واللسان واليد. بل إن المسلم مأمور بأن يأخذ بواحدة من هذه الوسائل من أجل تغيير ما هو منكر شرعاً، لقول الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم: (إذا رأى أحدكم منكراً فليغيره بيده فإن لم يستطع فبلسانه فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان)… وهذه خصيصة من خصائص هذه الأمة وشرط من شرائط خيريتها: (كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله)، إذا أعطاها كل مسلم حقها ومارسها أفراد المجتمع الإسلامي الممارسة الصحيحة وامتثل كلٌّ بشروط وآداب تطبيقها، أنتجت لا شك في هذه الأمة هذا الخير العظيم ورفعتها هذه المنزلة العالية.

أما التغيير باليد فهو أعلاها وأدقها شرطا، فهي لازمة لمن ملك القرار وولي من الأمور ما يؤهله لتغييرها بيده، شريطة ألا يترتب باستعمالها مفاسد أكبر من المصالح المؤملة المرجوة من التغيير، وهناك تفصيل وتأصيل شرعي يطول شرحه لا يسعنا الخوض فيه في مقالنا هذا …

أما التغيير بالقلب فهو أوسعها وأوجبها على كل مسلم لأنه داخل في استطاعة كل أحد غير متعد بطبيعته لغيره، ولذلك فهو أضعف الإيمان، ولكنه مع ذلك نقطة الإنطلاق، فإن لم ينكر العمل الفاسد بالقلب لم ولن تنهض أي جارحة لتقوم بدورها في التغيير.

أما التغيير باللسان فهو محور حديثنا اليوم، ويقصد به التغيير بالكلمة سواء كانت مقروءة أو مسموعة أو مرئية، وهي طريقة ووسيلة فعّالة في إحداث التغيير… ميسرة الآن عبر الوسائل الإعلامية المتطورة المختلفة. وقد أثنى عليها الخالق سبحانه في مواقع كثيرة من كتاب الله …

فهاهو القرآن الكريم يسمي سورة (غافر) باسم (المؤمن) وما هو إلا رجل مؤمن من آل فرعون كان يكتم إيمانه ولكنه حين دافع ونافح عن سيدنا موسى عليه السلام ودعوته بلسانه خلده القرآن: ( وقال رجل مؤمن من آل فرعون يكتم إيمانه أتقتلون رجلا أن يقول ربي الله)،

وها هو شهيد آل النجار تفصل قصته سورة “يس”: (وَجَاءَ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى قَالَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ) فقتلوه فأدخله الله الجنة (قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ قَالَ يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ) بل وأفنى الله قومه عن بكرة أبيهم عندما قتلوا صوت الحق ليسكتوه: (إن كانت إلا صيحة واحدة فإذا هم خامدون)
ويباهي الله في سورة الكهف بفتية مؤمنين (إنهم فتية آمنوا بربهم وزدناهم هدى)، لأنهم قاموا وأعلنوا بلسانهم رفضهم لعبادة غير ربهم: (وربطنا على قلوبهم إذ قاموا فقالوا ربنا رب السموات والأرض لن ندعوا من دونه إلها لقد قلنا إذن شططا)

وقد جعل الله لوسيلة التغيير باللسان كما بيناه هذه المكانة العالية لدورها في تجنيد طاقات أفراد المجتمع المسلم للخير، وندبهم – بواجبهم الشرعي- أن يكونوا جزءا من عملية إصلاح المجتمع، وعوناً بالتالي لمن بيدهم القرار ويملكون سلطان التغيير باليد، فكأنه جعل لكل صاحب فكر وقضية ولكل مقدم لمقترح أو نصيحة ولكل طالب حاجة أو مظلمة وسيلته السلمية المعتبرة لإيصال ما يريده بلسانه.

وعندما يُحرَم أصحاب سلطان التغيير باليد من سماع أصوات أصحاب الفكر ومقدمي النصح وطالبي الحاجات وأرباب المظالم، يخلو الجو للفساد ليطل برأسه، وعندما يُمارس القمع على هذه الأصوات الحرة تفتح الأبواب لأصحاب المصالح الشخصية وتسخر للمنابر التي تخدم النفوذ والأموال كل الوسائل الإعلامية، وبذلك يُضرب حول صانعي القرار بسور فلا يصل إليهم ولا إلى مسامعهم وأبصارهم إلا ما يخدم مجموعة من المرتزقة، فتنمو بطانة طفيلية فاسدة حول كل صانع قرار … تكبر كلما تعظم ولايته فتعظم بذلك مصيبته…

نرى ذلك رأي عين في كثير من الأنظمة الدكتاتورية التي يتم فيها إخراس كل صوت مخالف ومعارض، تتميز هذه الأنظمة بتزييف الكلمات وصناعة الأخبار لا نقلها، فلا يُسمع عندها صوت الشعب، فتستمر المظالم وتضيع الحقوق ويستشري الفساد، ولا نصحو إلا وقد بدأ الغليان فإذا ما وصل إلى نقطة الانفجار سيدفع المجتمع بأسره تبعات ذلك، تبعات تعطيل واحدة من أهم وسائل إصلاح المجتمعات ألا وهي التغيير باللسان.

وإنني أعجب أنه مازال هناك -في عصر مثل هذا الذي نعيش- من يعتقد أنه يستطيع أن يخرس صوت الحق وأن يزيف الواقع، في عصر حطمت أسواره الانترنت والفيس بوك واليوتيوب والفضائيات وغيرها ….

وأعجب من رؤوساء تحرير صحف يعطون لأنفسهم حق تغيير مقال لكاتب ما، فيغيَّرون كلمة ويسقطون أخرى وفي هذا تشويه لشخصية المقال وتمثيل بها، فما يسع الكاتب إلا أن ينشرها في فضاء الانترنت الواسع ولكن بعنوان أحمر (المقال قبل مقص الرقيب)، فيقرأ المقال أكثر وينتشر بطريقة أسرع، إذ أن كل ممنوع مرغوب، والقارئ متشوق لأن يقرأ ما حذفته الصحيفة أكثر من شوقه لقراءة المقال نفسه….

وأعجب كذلك ممن يدعي الوطنية ولا يؤدي دوره في الإصلاح بلسانه، لأن الوطنية الحقيقية تستدعي من المواطن الصادق أن يكون عوناً لولاة الأمر وصناع القرار بإيصال المعلومة في أحسن صورة، وبالحكمة والموعظة الحسنة وإن طاله في سبيل ذلك الأذى من أصحاب المصالح والمنتفعين باستمرار الأوضاع وانتشار الفساد.

بل وإنني أكاد أجزم أن كل من باستطاعته أن يصلح بلسانه أو قلمه أو صوته ثم يتوانى عن ذلك خوفاً على نفسه أوعلى مصالحه الخاصة، فقد خان الأمانة وساهم دون أن يدري في استفحال الشر وانهزام الخير وتفشي الفساد وكان أبعد ما يكون عن تحقيق مفهوم الوطنية والمواطنة الصادقة.

لقد تناولت هذا الموضوع وأنا أدرك تماما وأستشعر حرص والدنا ومليكنا على الإصلاح، وأنا أؤمن أن فتح قنوات المشاركة المقروءة والمسموعة والمرئية على مصراعيها وضمان حرية التعبير لكل من هم أهل لذلك كل في تخصصه كفيل أن يسارع في الإصلاح وأن يدحض الفساد وأهله وأن يحقق غاية وهدف والدنا ومليكنا في الوصول إلى ما فيه صلاح البلاد ونفع العباد. تناولته لأن ممارسة التغيير بهذه الطريقة المنضبطة كفيل بأن يحدث التغيير الذي ننشده، ولأننا بغيره نكون قد فتحنا الباب للاضطرابات والفتن والغوغائيات وتمزيق لحمة المجتمع وتشتيت الكلمة والصف، تناولت هذا الموضوع لكي أشرح معنى من معاني الوطنية الصحيحة.