اليد.. شاهدة الحق

معجزة من معجزات الخالق الرحمن، ورد ذكرها في القرآن مائة وعشرين مرة كناية لتقلبات الحال بالإنسان، كالقوة والقدرة والتفضل والنعمة والحفظ والوقاية والغنى والكفالة، والملك والطاعة والسلطان، والذل والقهر والاستسلام.

جعلها الله تقترن بالقلم الذي به علم الله الإنسان، فخلدت العلم وأثبتت الحقوق ووثقت العهود والعقود وسجلت التاريخ ونقلت أخبار الماضين للباقين واللاحقين عبر الأزمان، بل لولا أن كرم الله بها الإنسان لم يكن ليحقق من الحضارة ولا جزءاً يسيراً من ذاك الذي كان.

 

إنها يد الإنسان المعجزة الأداة المذهلة التي تتكون من خمسة أصابع، وكل إصبع فيها مكون من ثلاث سلاميات إلا الإبهام فهو يتكون من سلاميتين فقط، وهنا يكمن الإعجاز، فعلى السلامية الثانية يرتكز وتر قابض طويل يطوي السلامية الثانية فيعطي الإبهام رشاقة ودقة خاصة يتفوق بها الإنسان على باقي المخلوقات، وبهذه الدقة والمرونة انطلقت اليد تؤدي مهام لا نهاية لها، وكان للإبهام الدور المحوري في ذلك، فمفصله الكروي يعطيه مرونة فائقة وسلاميتاه الاثنتان مزودتان بما لا يقل عن خمسة أوتار تمنحه الحركة في كل الاتجاهات بدقة ورشاقة.

 

وهكذا فبالإبهام نخيط الشرايين الدقيقة الممزقة ونعزف على البيانو ونكتب أعمق الأفكار وأجمل الأشعار. بل وبدون اليد لم يكن لنا القدرة على صقل العدسات التي فتحت أمامنا العالم، فبها عولج ربع سكان المعمورة من العيوب البصرية، وبها انكشفت أمامنا الميكروبات المجهرية واخترقنا آفاق الفضاء ورأينا المجرات السابحة في ملكوت السماء، ولا غرابة أن نقول إن حضارة الإنسان متعلقة بهذا الإبهام.. نعم بل ولا غرابة ما قاله العالم إسحاق نيوتن إن هذا الإبهام العجيب هو الذي فتح لنا هذا العالم العجيب، فزاد معرفتنا بوجود الله.

وهذه الأداة المذهلة (اليد) تتضافر لإنجاز العمل بها مجموعة من العظام والأوتار والعضلات والأعصاب والشرايين والأوردة والعروق اللمفاوية في تناغم بديع.. اثنان وسبعون عظماً ترقص وتهتز وتتوتر على حواف اثنين وثمانين مفصلاً، يمطها ويرخيها، يبسطها ويوترها ثلاث وثلاثون عضلة. وحذاء رسغ يد تجلس فيه سبع عظام صغيرة الحجم عظيمة الأهمية أعطيت أسماء شاعرية وهندسية، وأي كسر صغير في أحد هذه العظام يكلف الإنسان جبيرة جبسية أشهر عديدة.

وبين هذه الأوتار والعظام تمر شبكتا سقي وتروية دموية من أبدع ما خلق الله تصبان من نهرين في حافة الرسغ في شلالين متعانقين متضافرين، ومنظم كل ذلك شبكة عصبية محكمة متدفقة من ثلاث تمديدات عصبية تستقبل الحس وتوحي بالحركة مربوطة بقوسين من التوترات العصبية، الأول إرادي وهو القادم من الإرادة والعقل كأمر لا يرد من الإدارة العليا، والثاني يعمل بطريقة لا مركزية دون استشارة العقل، بل يتصرف بما يناسب الحدث ويرسل للعقل أو الحكومة المركزية إشعاراً بما تصرف به للإحاطة فقط، كما في لمس القطعة الساخنة، فاليد تنسحب فوراً دون تفكير.. وهكذا خلق الله الإنسان نموذجاً ربانياً مثالياً لما يجب أن تكون عليه أنظمة الدول بين النظام المركزي والنظام اللا مركزي.. فتبارك الله أحسن الخالقين.

 

وقد لا يدرك أكثر الناس مدى تعقيد العمليات التي تجري في مراكز الحركة في الدماغ، وكذلك حجم المعلومات المرسلة والمستقبلة بين اليد والدماغ عند أداء اليد أي مهمة مهما بلغت بساطتها. برنامج ضخم مخزن في مركز الحركة الرئيسي في الدماغ ومراكز أخرى مساعدة يلزم تفعيله ليحدد سلسلة الإشارات العصبية التي يجب إرسالها لمختلف عضلات اليد وبتزامن منقطع النظير، مئات الملايين من الإشارات العصبية ترسل من الدماغ لعضلات اليد وكذلك من اليد لعضلات الدماغ عندما تمسك بكوب من الماء للشرب لتحديد العضلات المراد تفعيلها وتحديد وضعية المفاصل المختلفة ومقدار شد العضلات في كل لحظة زمنية “إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ”، ولا يدرك مقدار هذا التعقيد والدقة والإبداع أكثر من المهندسين العاملين في مجال تصنيع الروبوت أو الأيدي والأطراف الصناعية أو الأطباء المعالجين لمصابي العاهات.

 

حقاً إن العقل البشري ليقف عاجزاً عن فهم أسرار البرامج المخزنة في مراكز الحركة في الدماغ للتحكم في هذه اليد، وهذا ما حدا بأعظم علماء العصر في هندسة الروبوت أن يعترفوا بأنهم لا يستطيعون أن يفكروا في أي إضافة أو تغيير بالزيادة أو التعديل أو التغيير لتحسين تصميم هذه اليد المعجزة، وعجزهم الكامل عن صناعة يدٍ تقوم ولو بجزءٍ يسير مما تقوم به اليد البشرية.

بل إن الخالق اللطيف البديع جعل الشرايين والأوردة المغذية للعظام والعضلات كما جعل الأعصاب في مسارات محددة متقنة الحماية بين عضلات ومفاصل لضمان عدم تعرضها للتلف أو القطع أثناء قيام اليد بحركاتها المختلفة أو جراء تعرضها للصدمات الخارجية.. فسبحان “الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْء خَلَقَهُ”.

 

بل زود الخالق نهايات الأصابع بجسيمات حسية مختلفة منها المختص بالحر والبرد، فيتمطط الجلد ويتوسع مع تغيرات درجة الحرارة، وثانية لمعرفة الاهتزازات، وثالثة للألم بانضغاط هذه النهايات ونقل الإحساس بالألم، ورابعة لمعرفة الحس العميق الهام لتوفير رشاقة الحركات وتوازنها بارتباط رئيسي ومعقد مع الدماغ.

 

ومن الإعجاز كذلك بصمة الأصابع وترتيب الخطوط البارزة في الكفين التي لا يمكن أن تتطابق عند شخصين على الإطلاق، والتي تبقى ثابتة لا تتغير مدى الحياة، بل تم التأكد أن مجرد احتمال أن تتطابق فقط اثنتا عشرة ميزة من مئات الميزات من بصمة إلى أخرى هو احتمال واحد من 64 ملياراً، “بَلَى قَادِرِينَ عَلَى أَنْ نُسَوِّيَ بَنَانَهُ”.

علاقة اليد بالدماغ علاقة وثيقة بديعة عجيبة، فحركة الأصابع أثناء الكتابة تنشط منطقة أكبر من الدماغ هي المسؤولة عن التفكير والذاكرة واللغة ولا يحدث ذلك أثناء الكتابة على الكمبيوتر.

بل وفي دراسة أجريت في جامعة انديانا ونشرت في مجلة “Trends in Neuroscience and Education” في عام 2013م بعنوان “تأثير الكتابة باليد على تطور الدماغ وتكوينه الوظيفي والعملي” وجدت أن دماغ الأطفال الذين يكتبون بأيديهم أكثر نشاطاً من الأطفال الذين ينظرون إلى الحروف، بل إن الإشارات العصبية لدماغ طفل في الخامسة أثناء الكتابة أكثر تطوراً وحثاً للدماغ، ويشبه ما يحدث للبالغين مقارنة بطفل ينظر فقط للحروف، فسبحان الذي (علم بالقلم).

 

بل إن أعظم الأمثلة التي تجسد هذه العلاقة المعقدة بين اليد والدماغ والقدرة العجيبة لهذه اليد المعجزة  قصة هيلين كيلر التي أصيبت بمرض التهاب السحايا وهي في منتصف عامها الثاني من عمرها، فأفقدها المرض حاستي السمع والبصر، فأصبحت عمياء صماء خرساء وأغلقت عليها جميع نوافذ التعليم، فلا بصر ولا سمع ولا كلام، وأصبحت يدها هي نافذتها الوحيدة للاتصال بالعالم الخارجي، وبواسطة يدها وأصابعها لم تتعلم هيلين لغة الإشارات فقط وإنما تعلمت كذلك النطق.. نعم تعلمت النطق بمعلمة صبورة رافقتها خمسين عاماً، فكانت كيلر تضع أصابعها على حنجرة معلمتها وفمها وشفتيها ولسانها، فتحس بدقة طريقة تأليف الكلمات باللسان والشفتين واهتزازات حنجرة المدرسة وحركة لسانها وشفتيها وتعابير وجهها أثناء الكلام.. كل ذلك بواسطة استخدام يديها وأصابعها، وعندما تنطق تقلدها، وبذلك نطقت كيلر بل وأبدعت وقارعت الفصحاء من الناطقين بخطب تتصدع لها الأفئدة والقلوب وتطرب لها الآذان، وترقت بيدها وأصابعها مدارج المعرفة لتحصل على الدكتوراه في الفلسفة وتكتب العديد من الكتب وتحاضر حول العالم، بل وتتعلم خمس لغات لتعيش حياة حافلة بالإنتاج والإنجاز والإبداع بفضل الله الذي وضع في اليد والأصابع وعقل الإنسان كل هذا الإبداع الذي يتفتق بنفس عالية الهمة والعزيمة والصبر على العمل الشاق وتحدي الصعاب.

 

وبهذه العلاقة الوطيدة بين اليد والدماغ لا غرابة أن نجد علوماً جديدة نشأت من هذه العلاقة، منها علم الجرافولوجي  وهو علم تحليل الشخصية من خلال خط اليد، ويستطيع كشف معظم السمات الجسدية والنفسية للكاتب من خلال خط يده، فالكتابة قراءة لما يدور في مخ الكاتب وما يسلكه جهازه العصبي، بل هو مقياس شديد الدقة لشخصية الإنسان وحالته المزاجية والعاطفية وقدراته الفكرية وميوله واتجاهاته، بل هناك علم جديد يسمى جرافوثيرابي وهو علم تعديل السلوك من خلال خط اليد.

 

إذن لا غرابة كذلك أن يكتشف العلم الحديث أن في اليد طاقة تعكس طاقة الإنسان الإيجابية أو السلبية، وأن هناك انتقالاً لهذه الطاقة عن طريق اليد والأصابع، بل تم قياسها وتصويرها، وقد جعل الله فيها وسيلة للرقية والعلاج بالطاقة، والعلم يؤكد هذه الخواص والقدرات.

وفي دراسة في معهد بيكمن Beckman لدراسة التأثير الإيجابي للمصافحة، وجد أن المصافحة تساعد على تطور العلاقات ووجود نشاط في مناطق في الدماغ خلال المصافحة، وبذلك تنتقل بعض المشاعر التي تنعكس مباشرة على متلقيها وتكون لديه ردة فعل تجاه صاحبها.

 

لا عجب إذن إذا كانت المصافحة من آداب الإسلام وأخلاقه الكريم وهي تعبير عن المحبة والمودة، تذهب الغل والحقد والكراهية.. يقول الرسول الكريم “إِنَّ الْمُؤْمِنَ إِذَا لَقِيَ الْمُؤْمِنَ فَسَلَّمَ عَلَيْهِ، وَأَخَذَ بِيَدِهِ، فَصَافَحَهُ، تَنَاثَرَتْ خَطَايَاهُمَا، كَمَا يَتَنَاثَرُ وَرَقُ الشَّجَرِ”.

 

وكما أن هناك نظافة حسية لليد، وإهمالها يؤدي إلى الأمراض، لأنها أكثر وأسرع وسيلة لانتقال الأمراض، فإن لها كذلك نظافة معنوية وإهمالها يؤدي إلى الهلاك، فهي رمز للعمل، وإنها إن كانت لك اليوم، فإنها ستشهد عليك يوم القيامة لا محالة، فقد أطاعتك في الدنيا لأن الله أمرها فأطاعتك على مضض، وهي تخشى أن تعصى بها خالقها، وهي تلعنك حين تعصي وتتبرأ من عملك في الدنيا وتشهد عليك يوم القيامة حين ينطقها الله فتشتكي له ما أجرمته في حقها وفي حقه سبحانه.

 

ستشهد عليك في كل حركة تحركتها.. أحننت أم بطشت؟ وفي كل حرف وفي كلمة كتبتها.. أصدقت أم كذبت؟ وفي كل شيء أخذته أو تركته.. أعدلت أم ظلمت؟ وفي كل أمر حملته أو أسقطته.. أأكملته أم قصرت؟

وستنطق وتشهد بكل ما في حياتها بها أنت صنعت.. فهل ستكون ممن قيل فيهم..

 إن أيديهم في الناس ما خلقت إلا لبذل الأيادي والعطيات.. أم ستكون ممن قال فيهم سبحانه “أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحَابٌ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ”.

فهل رأينا الله حقا في هذه الآية التي بين أيدينا “فإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُور”.

 

 

 لقراءة المقالة من صحيفة الوطن الرجاء الضغظ على الرابط أدناه :

http://www.alwatan.com.sa/Articles/Detail.aspx?ArticleId=17493