جامعة الفيصل .. منهج ووقف

دعينا لحضور لقاء أقامته جامعة الفيصل بالغرفة التجارية بجدة يوم الأربعاء 25 محرم 1430هـ الموافق 21 يناير 2009م، أقيم اللقاء برعاية الغرفة التجارية لطرح ومناقشة سُبل التعاون مع الجامعة، واستمعنا إلى رؤية جامعة الفيصل الخاصة وهي مؤسسة غير ربحية تسعى لتحقيق مستوى عالمي، وتتبنى كجامعة بحثية منهجا نموذجيا لابتكار المعرفة ونشرها وتطبيقها في مجالات الإدراة والطب والهندسة وعلوم الحياة وتنمية اقتصاديات المعرفة، واستمعنا إلى مهمتها ورسالتها في جعل الطالب هو المحور، والتزامها بصنع المعرفة ونشرها من خلال برامج أكاديمية عالية المستوى لكل من درجتي البكالوريوس والدراسات العليا، واطلعنا على نماذج من برامج البحوث وأنواع الخدمات التي تعود بالنفع على المملكة العربية السعودية وجميع أنحاء العالم إن شاء الله، كخطوة رائدة لتحسين تنمية الاقتصاد المعرفي.

 

وجامعة الفيصل تقدم نموذجاً يحتذى في تفعيل دور الوقف في التعليم لكونها جامعة أهلية غير هادفة للربح، ولكونها كذلك معتمدة على الوقف والدعم من الشركات والقطاع الخاص والأفراد، ولتقديمها برامج لوقف المنح الدراسية المختلفة للطلاب النابهين، وبذلك تصبح الجامعة قادرة على اختيار الطلبة الأكفاء الأحق بالاستثمار فيهم، ولا تصبح مقيدة في اختيار الطلبة بناءً على مدى قدرة الواحد منهم على دفع رسوم الدراسة.

 

وإذا بدأ التطبيق الفعال الشامل الواسع لمفهوم الوقف في الإسلام في الانتشار في مجالات الحياة الحيوية وعلى رأسها التعليم والصحة، فإن أثرها على مجتمعاتنا بل والأمة قاطبة سيكون واضحاً جلياً، وهو تفعيل لدور المؤسسات المدنية والوقفية في بناء المجتمعات. وتتكون جامعة الفيصل من أربع كليات هي كلية الطب، وكلية إدارة الأعمال، وكلية الهندسة، وكلية العلوم والدراسات العامة.

وحديثي سيكون اليوم عن كلية طب جامعة الفيصل ..
لقد بدأت كلية طب جامعة الفيصل بإبرام عدة اتفاقيات للتعاون المشترك مع جامعات ومراكز علمية بحثية رائدة في الدول المتقدمة مثل جامعة هارفارد وهي تعتمد على استخدام التقنيات الحديثة المتطورة في التعليم والبحث العلمي، مما يساعد على ربط كليات الجامعة مع بعضها البعض، وإيجاد فرص تعاون مع القطاعات الحكومية والقطاعات الخاصة الرائدة.

 

وقد رأينا الاهتمام الذي يوليه رئيس مجلس الأمناء الأمير خالد الفيصل وطرحه لمفهوم الجامعة وإلمامه بتفاصيلها وعن يمينه الأمير تركي الفيصل يحفظهما الله .. وتجسدت لي روح الملك الراحل فيصل بن عبدالعزيز يرحمه الله وجديته في الأخذ بأسباب نشر العلم، والذي قاد حركة التعليم في السعودية بشكل عام وتعليم المرأة بشكل خاص. وإنني لأستشرف المستقبل وأتطلع إلى هذا الجيل الذي سيتخرج من الكلية، فوجدتني أتمنى لو يتم وضع توصيف دقيق لذلك الطبيب الذي سيتخرج من كلية الفيصل، ويكون أهلاً إن شاء الله أن يجري الله على يديه الشفاء، وسبب طلبي هذا وتأكيدي على أهميته هو أنه عندما ننظر إلى معظم كليات الطب في هذا العالم الممتد، نجد تركيزهم على معرفة الطبيب ومهاراته وقليل منها من يتطرق إلى أخلاقه وسلوكياته، ومهما بحثنا لا نجد توصيفاًَ دقيقاً لخصالِ ذلك الإنسان الذي نريد أن تخرجه الكلية والذي سيكون بها أهلاً أن يجري الله الشفاء على يديه، خصالٍ وصفاتٍ مثلِ الصدق والإخلاص والأمانة والتجرد والإيثار، خصالٍ تجعل الطبيب واقفاً نفسه لمجتمعه، تجعله مترفعاً فوق الماديات، تجعله طبيباً حكيماً بلسماً وشفاءً لكل من حوله.

 

وقد يكون سبب تأخر معظم كليات الطب في العالم عن توصيف ذلك الطبيب الذي نريده من الناحية الأخلاقية والسلوكية .. هو القصور في مفهوم الشفاء عند الغرب، وحصرهم واختزالهم له في كثير من الأحيان على مفهوم العلاج فقط، واعتبارهم للعلاج أنه مجرد محصلة علم ومهارات ودواء ونظام ليس إلا، دون إدراكٍ أن عمل الشفاء يختلف عن باقي الأعمال في أنه عمل الرحمن، والطبيب لا يعدو أن يكون وسيلةً، فتراهم لم يفطنوا إلى مدى أهمية تأهل هذا الإنسان لأن يحظى بشرف اجتبائه ليكون هو من يجري الله الشفاء على يديه.

 

نعود ونجزم أن التوصيف الدقيق لذلك الطبيب الذي نبتغيه، في هذه المرحلة الأولى من التأسيس، لا يقل أهمية عن بناء الحجر واعتماد الوقف واختيار الشراكات التعاونية مع أفضل كليات طب في العالم، بل أعتقد أنها ستكون الفيصل في تحقيق ما نتطلع إليه في كلية طب الفيصل، فتوصيف ذلك المنتج – وهو طبيب الفيصل – لابد أن يكون واضحاً اليوم ومكتوباً ومفصلاً، توضع شروط قبول الطلبة والأساتذة بناءً عليه، ويتم تصميم اختبارات القبول وطرق التقييم وفقاً لهذه المعايير الأخلاقية والسلوكية المضبوطة سلفاً، وسيكون التركيز على ما يطلق عليه بالمنهج الخفي، وهو ما يبثه الأساتذة والمدرسون من أخلاق وسلوكيات وروح في طلبتهم، فأستاذ كلية الطب المغرور لا يُخرج طبيباً متواضعاً .. والذي تضخمت فيه "الأنا" لا يستطيع أن يزرع معنى الإيثار أو التضحية أو العمل الجماعي أو تقديم مصلحة المجتمع، ونحن نأمل ونتطلع ونتشوق لجيلٍ جديد من الأطباء، يتجسد فيهم مفهوم الطبيب الوقف الذي ذكرنا، فيكون كله وقفا لله تعالى .. في خدمته لمجتمعه وأمته بصدق وأمانة وإخلاص وتجرد وإيثار .. نريد جيلاً من الأطباء الحكماء الذين يبعثون في كل من حولهم الأمل والشفاء .. نريد جيلاً جديداً من الأطباء الذين يعيدون لمجتمعاتنا الأمل، ويحملون للأجيال من بعدهم الأخلاق والمبادئ التي حملها علماء وحكماء وعمالقة الطب في عز الإسلام.

 

نريد في طبيب الفيصل أن تتجسد فيه جدية وتواضع الفيصل رحمه الله .. نريد طبيب الفيصل أن يحمل عزة وإباء وصدق وعزيمة الفيصل رحمه الله، التي مازلت أذكرها في مواقفه الرجولية العديدة منذ كنت في السابعة من عمري لم أتخطاها، أذكر على رأسها نذره لله تعالى أن يصلي من عامه القادم في القدس، وقد علم الله صدق نيته ومضاء عزيمته – ولم يكن وقت ذلك قد حان بعد – فأحله من عهده وأبر قسمه وكتب له الشهادة قبل انصرام عامه، وبذلك مَلك ذلك الملك قلوب الأوفياء بعد رحيله، بما فيها قلب ابن السابعة ذاك .. لما أهداه إليه من شعور بالعزة والقوة والعزيمة والصدق والإخلاص، ورحل الشهيد ولكن مواقفه وكلماته بقيت حية في قلوب كثير من أبناء أمته .. بما فيهم ابن السابعة من العمر آنذاك.

إن إقامة وقفٍ لدعم الجامعة والكلية ضرورة أساسية، وتمام كمالها أن تنجح الجامعة في إخراج الطبيب الذي يصبح هو بذاته وقفاً لمجتمعه. وإن البحث عن أفضل المناهج وأحدث وسائل التعليم كذلك ضرورة، ولا يقل عن ذلك أهمية النظر بعين واعية فاحصة عالمة خبيرة لهذا المنهج الخفي الذي لا يكتمل صنع الطبيب الحكيم الذي ننشده إلا به .. عندها بإذن الله تعالى نُخرج جيلاً جديداً من الأطباء يلقبون بالجيل الفيصل .. جيل جامعة الفيصل، جيل تحيى بسماته وخصائصه وأخلاقه الذكرى العطرة للفيصل رحمه الله.