رأيت بأم عيني على حدود سوريا

لقد أكرمني الله بالإستجابة لدعوة كريمة من “ليان”، و “ليان” فريق إعلامي خليجي تطوّعي مختص بتغطية مأساة اللاجئين السوريين في لبنان ..

 

وقد استوحى فريق العمل اسم “ليان” لحملة إغاثة لاجئي سوريا في الشمال اللبناني بعد وفاة رضيعة لا يتجاوز عمرها سبعة شهور بعد تدهور حالتها الصحية – لمعاناتها من مرض قلبي- في سوريا ابتداءً، ورغم قيام والديها بكل ما يمكنهم لإنقاذ فلذة كبدهم من موت محقق، اجتازوا المعابر وصولاً إلى بر الأمان على الحدود اللبنانية في وادي خالد، فطلبوا المعونة واتصلت المستشفيات على متبرّعين من الخليج، ولكن عندما وصلت المعونات كانت ليان قد لفظت أنفاسها الأخيرة في ظل عدم وجود عناية طبيّة وإغاثة سريعة للاجئين.

 

استجبت لدعوتهم في زيارة للحدود السورية اللبنانية (منطقة وادي خالد)، ركبت الطائرة من جدة السابعة صباحاً متجهاً إلى عمّان ومنها إلى بيروت، وبعد أن وصلنا بيروت، انطلقنا بالسيارة إلى الفندق في طرابلس وبدأت الإجتماعات التحضيرية .. مجموعة من الشّباب والشّابات في مختلف المجالات الصّحية والقانونية والإعلامية من الكويت والسعودية وقطر. وتحدّد في الإجتماع كيف سيتم تقسيم فرق العمل على بيوت النازحين واللاجئين والمستشفيات التي سنزورها.

 

ثمان وأربعون ساعة من عمري لا يمكن أن تُنسى .. رأيت فيها من المآسي والابتلاءات والمحن ما سيبقى لي زاداً وعبرة طوال عمري، رأيت فيها عشرات العائلات من اللاجئين الذين انقلب حالهم من عِزّ وغنى إلى فقر وعوز وتشريد، ومن صحّة إلى مرض وعاهات مستدامة، ومن حياة رغيدة إلى موت مجهّز، يعيشون بيوت من الصفيح في أزقة مظلمة يصعب الوصول اليها أو في مناطق عشوائية تفتقد أبسط مقوّمات الحياة.

 

 

وفي كل بيت قصّة .. وفي كل قصة مواعظ وعبر .. ففي بيت يتكوّن من غرفةٍ واحدةٍ ضيقةٍ تقطن عائلتان (امرأتان وأطفالهما) تسعة أفراد .. الشقة كلها غرفة واحدة لا ممر فيها، والمطبخ هو الحمّام .. أزواجهما يقاتلان لتحرير سوريا من الطّاغية وهما مشرّدتان مع الأطفال لا يعلمون هل سيعود لهما أزواجهما أم يستشهدان .. وقد كانا في مثل هذا الوقت من العام الماضي يعيشان في شقق واسعة مريحة .. رأينا بالرغم من كل ذلك ابتسامة الرضى والطمأنينة والثبات والإيمان.

 

 

بيت آخر تقطُنُه امرأة مع طفلها البالغ من العمر اثني عشر عاماً، فقدت زوجها وثلاثة من أبنائها الأربعة .. زوجة شهيد وأم لثلاثة شهداء .. مدرسةٌ في الصّبر والرّضى بقضاء الله وقدره والإيمان الراسخ أنّهم منتصرون .. ترينا على هاتفها الجوال فيديو لأحد أبنائها الشهداء وهو يُشيّع .. أصرّت إلا أن تُطعِمنا وليس في بيتها شيء.

 

 

دخلنا بيتاً فيه عائلة كبيرة وفيها رجل ضرير حكى لنا أنه بالرغم من كونه رجلاً ضريراً إلا أن مجرمي الأسد لم يراعوا عجزه فأمروه بالسجود لصورة بشّار فأبى، فمازالوا يضربونه حتى سقط مغشياً عليه ينزف دماً .. وانشغلوا عنه بأخيه الضرير أيضآً يركلونه ويدوسونه فلم يتركوهم حتى قبّل الأب حذاء الضابط المسؤول، ثم وجدوا أهل الخير وهربوا بهم جميعاً، في هذا البيت رأينا الأطفال بمعنويات عالية أنهم واثقون بنصر الله.

 

 

أما في المستشفيات فرأينا الكثير والكثير مما يشيب له الرأس .. رأيت فتاة في الثانية عشر من عمرها اسمها “غفران”، اخترقت رصاصة القنّاصة ركبتها اليمنى مما سبب لها قطعاً في العصب وشللاً كاملاً من الركبة إلى أسفل الساق تاركاً إياها بعاهة مستديمة، وعلمت آنذاك أن هناك المئات من مثل غفران، فقنّاصة المجرم بشار يتعمّدون في حالة الأطفال أن يسببّوا لهم عاهات مستديمة ليشغلوا أهليهم بهم عنهم.

الغالبية العظمى من الحالات التي شاهدناها هي لمدنيين وقصصهم متشابهة .. أصابهم القنّاصة أو شظايا القنابل وهم يحاولون إحضار الخبز والزّاد لذويهم، ومنهم من صادهم رصاص القنّاصة وهم يحاولون إسعاف جرحى فأصابوهم في الرأس أو في الظهر أو في الأطراف.

 

 

رأيت مزارعاً فقد قدمه اليمني وتحاول المستشفى ألّا تقطع اليسرى وهو يُخفي رأسه خشية أن تظهر صورته فينتقم المجرمون من أهله .. وقصّته أن المجرمين لغّموا حقله بالألغام ليلاً وذهب الصباح كعادته لحرث أرضه فانفجر به اللغم وفقد قدمه فور الحادثة.

 

 

رأينا شاباً في العشرين من عمره وقد أصابوه وهو يحمل الخبز عائداً مسرعاً لبيته .. رصاصة اخترقت الظّهر، وأخرى مستقرة في دماغه لا يستطيع الجرّاحون إخراجها، وبضع رصاصات في فخذه مما أدى إلى تحطيم عظام فخذه اليمنى، وأمعاؤوه ممزّقة لا يستطيع الأكل.

 

 

وآخر يرقد مشلولاً شللاً كاملاً من الرقبة إلى أسفل القدم .. لا يستطيع إلا أن يحرّك عينيه وشفتيه ويتنفس من خلال أنبوب في رقبته. كان طالباً للقانون في سنته الثالثة، وله ثلاثة أطفال .. هو الآخر خرج من بيته ليشتري خبزاً أو شيئاً يؤكل عندما بدأ الرصاص يتراشق عليهم، فبدأ هو وزملاؤه في الهروب ولكن القنّاص تمكّن من أن يهديه رصاصة في عموده الفقري وأخرى في الرّقبة فسقط مشلولاً في لحظته، فحمله أهل الخير وهرّبوه إلى حدود سوريا ثم إلى طرابلس .. زوجته لم تعلم عنه شيئاً منذ لم يعد إلى بيته، وأخيراً وجدته في إحدى المستشفيات .. تبكي وهي ترى زوجها في حالته هذه وهو لم يفعل شيئاً إلا أنّه حاول إحضار طعامٍ لأهله.

 

 

رأيت شاباً يبلغ من العمر 15 عاماً.. يروي قصته العجيبة ..حيث كان من الذين قاموا بالمظاهرات السّلمية في أول الثورة، ومازال يذكر اليوم .. التاسع والعشرون من إبريل 2011م .. هو وأصحابه الخمس عشر وقفوا أمام عناصر الجيش، فأتوهم بأربع دبابات حربية .. وقفوا أمامها ظانين أنهم إخوانهم ولن يؤذوهم .. فجأة فتح الجيش النار عليهم .. مات كل رفقائه في لحظتها .. ولا يذكر ما حدث بعدها، ولكنه سمع صوت الدبابات وهي تمشي فوق جثثهم فتهشّم عظامهم، وبعد مغادرة الجيش السوري جاء الأهالي لحمل الجثث ففوجئوا أنه مازال حياً .. يتحدث لنا في المستشفى بكل ثقة وإيمان ويوجه خطابه لبشار قائلاً “قد تقتل منا من تقتل ولكنك لن تقتل عزيمتنا ولن تقتل كرامتنا”، يملؤك بمشاعر العزة والكرامة .. وجلّ حزنه كيف فاتته الشهادة بينما فاز بها كل زملائه. عزيّته بقولي “إنما اصطفاك الله لتكون لك شهادتين: شهادة في الدنيا لتخبر العالم ما حدث لكم ذلك اليوم .. وشهادة في الآخرة”، فابتسم وكأنّ جوابي قد أصاب استحسانه وخفّف من حسرته بفوات الشهادة عليه.

 

 

سمعت من ممرضة اسمها الحركي “أم الوفاء”، كانت تعمل في مستشفى بابا عمرو الميداني ماذا يفعل المجرمون، زبانية بشّار، وكيف أنهم اعتقلوهم وكتّفوهم لأنهم يُنقِذون المرضى، حتى جاء جيش الأحرار وحرّرهم وانتقلت المستشفى إلى شقق متفرقة مختبئة .. حكت لنا كيف كان المجرمون من جيش بشار يباغتون المستشفيات إذا علموا أن فيها مقاتلاً مجروحاً لإنهاء حياته والإجهاز عليه، أو للقبض عليه لتعذيبه وأخذ المعلومات منه قبل قتله، وفي حالات يقومون بتقطيع جسده إلى أوصال ويضعونها في كيس كبير ويلقى بها أمام بيت أهله.

 

حكت لنا عشرات القصص عن اغتصاب أطفال ونساء أمام أزواجهن، وأما حالات الاغتصاب المتعدد للأسيرات فحدّث ولا حرج .. فلا تخرج الواحدة منهن من السجن إلا بهستيريا .. حكت لنا عن مجزرة كرم الزيتون حيث تم فيها ذبح الأطفال نحراً .. حكت لنا كيف أن القنّاصين كانوا ينتظرون خروجها من بيتها لقتلها ولكنها استطاعت بمساعدة جيرانها أن يحطّموا الجدار الذي بين بيتها وبيتهم لتخرج من بيت الجيران وتهرب من سوريا حيث لم يعد هناك أي طريقة لمساعدة المرضى .. فلا كهرباء ولا ماء ولا تعقيم ولا دواء. أصابتها رصاصة في فخذها ونجت من القتل. والدها أَبَى أن يغادر وبقي في بيته قائلاً “فليفعلوا ما يفعلوا” وبقيت معه زوجة أخيها .. ولا زال أخواها يقاتلان لتحرير الأرض.

رأيت صورة لأحد الأطفال أرادوا قتلها بالسكين نحراً، نجت من القتل بعد أن نحر القتلة مجموعة من الأطفال، ولكن الله شاء لهذه الطفلة أن تنجو حيث لم يقطع السكين الشريان فعاشت لتحكي كيف نحر زميلاتها.

سمعنا ورأينا في إحدى المستشفيات نتائج استعمال الرصاص المحرّم دولياً الذي يسمي بالرصاص الخارق الحارق المتفجر، فهو يخترق الجسد ويحرق كل ما يصل إليه ثم إذا استقر داخل الجسد انفجر.

سمعنا عن قنّاصات تعمل بالبصمة فإن وقعت في يد غير صاحبها من جيش الحرس الجمهوري انفجرت بحاملها، وسمعنا في مستشفى آخر عن الرّصاص الملوّث الذي إن دخل الجسم قتله لانتشار البكتريا في الجسم وهو كذلك محرم دولياً.

سمعنا عن جنود من إيران وحزب الله يشاركون في القتل والذبح والحرب على العزل من السلاح، لا يفرّقون بين رجل وامرأة صغيراً كان أو كبيراً.

 

لم تكن هذه إلا قطرة من غيث، فهناك أكثر من 23 ألف نازح سوري في طرابلس وحدها، وأكثر بكثير في تركيا والأردن .. هناك أكثر من ألف إصابة في مستشفيات طرابلس وحدها، ويرفض العديد من النازحين التصوير أو الإدلاء بأسمائهم أو معلومات عنهم خوفاً من تعقّب قوات الأسد لهم أو لباقي أسرهم في سوريا. وتشكّل العائلات (الأطفال والنساء) الغالبية العظمى من النازحين، وقد بدأت عملية النزوح إلى طرابلس في شهر مايو، وبلغت ذروتها في شهر في الشهرين الماضيين ومن ثم بدأ الإغلاق الجزئي للمعبر الحدودي في شهر سبتمبر والآن -بناء على أقوال شاهد عيان من المنطقة المقابلة- فقد بدأت عملية تلغيم الشريط الحدودي لمنع الهجرة نهائياً.

 

وتتم عملية النزوح بالتخفي والعبور عبر مزارع القمح والتي يبلغ ارتفاعها عادة مترين ومن خلال الأرض الفضاء الواسعة، وعند شعورهم بأي حركة ارتيابية يضعون بساطهم على الأرض لإبعاد الشبهات عنهم والتمويه بأنهم في نزهة عائلية. وتستغرق عملية النّزوح من الأرض السورية المنكوبة حوالي تسعة أيام، وتتم عملية النزوح عن طريق عبور النهر الجنوبي البارد وشبه المتجمد الذي يبلغ عرضه ستة أمتار، فيجتازونه إلى داخل الأراضي الحدودية اللبنانية بمؤونة خفيفة المحمل، وغالباً تتم عملية النزوح بلا أكل حتى تسهّل عليهم عملية اجتياز النهر. وبمجرد وصول النازحين السّوريين إلى الأراضي اللّبنانية (وادي خالد) لا يجدون من يستقبلهم، ولا يوجد سوى مستوصفين في وادي خالد واللذان يخلوان من أي تجهيزات طبية، وأقصى إمكانياتها الإسعافات الأولية، حيث يبعد أقرب مستشفى طبي متكامل في طرابلس عن وادي خالد مسافة الساعتين، ويوجد سيارة إسعاف واحدة فقط تخرج يومين في الأسبوع.

 

حيث أنه لا يوجد صورة واضحة عن انتهاء الأزمة السورية، فإننا نتوقع كارثةً إنسانيةً لتزايد النّازحين وعدم وجود مساكن ومأوى أو تنظيم أو استعداد لاستقبالهم أو ترتيب لأوضاعهم، من أجل هذا أنشئت حملة “ليان” لإغاثة اللاجئين السوريين على الحدود اللبنانية السورية، وبفضل الله في خلال أسبوعين نكون قد وفرنا أول مستشفى متنقل على الحدود في منطقة وادي خالد.

 

إننا على مشارف كارثة إنسانية ولا بد من تحرك سريع كل منا على قدر طاقته .. وإنني لهول ما رأيت بأم عيني من مجازر بشعة تفوق الوصف.. لأشدُّ على عضد وزير خارجيتنا في ضرورة التدخّل العسكري وأوافقه في وصفه للوضع في سوريا كما يجب أن يوصف بأنه “مجزرة بشعة” وقوله “نحن لم ندفعهم للقتال ولكنهم يسعون للحرية والكرامة، والقتل من قبل الحكومة السورية مستمر، فهل نسمح بذلك أم نعطي الشعب السوري حقّه في الدفاع عن أنفسهم؟ الناس بحاجة إلى مساعدة، نعم نحن ندعم تسليح المعارضة السورية” قالها وزير خارجيتنا ابن الفيصل.

 

وإنني أناشد حكومتنا وباقي الدول العربية والإسلامية أن تسارع في ذلك فكل يوم تتفاقم المأساة ويتزايد أعداد الضحايا الأبرياء .. ولن يوقف عدوان هذا النّظام الفاسق إلا القوة .. فهم لا يفهمون لغةً غيرها .. ولا عهد لهم ولا ذمة ولا ضمير يحتكمون إليه ولا عقود يوفون بها.

 

لمقطع فيديو ولقاء المصابين:

http://www.youtube.com/watch?v=pnbtvH7hLd8&feature=youtu.be

لخطبة جمعة يوم 6 إبريل 2012م بعنوان “سوريا التي شاهدت”:

http://www.youtube.com/watch?v=VXS1PZiOmyc

 

 


لقراءة المقالة من صحيفة الوطن الرجاء الضغظ على الرابط أدناه :

http://www.alwatan.com.sa/Articles/Detail.aspx?ArticleID=10316