رمضان.. دواء المبتلين

تحدثنا في المقال السابق “ماذا نريد من رمضان؟” عن واقع استقبالنا لرمضان وعما ينبغي أن يكون استقبالنا له، وعرفنا أنه فرصة ليُخرِجَ منّا خير ما فينا ويطرد منا أسوأ ما فينا. فهو علاج ودواء لعدد من أمراض نفوسنا، ففي أمر الرسول صلى الله عليه وسلم لعلاج الغضب أثناء الصوم “إذا كان يوم صوم أحدكم فلا يرفث، ولا يصخب، فإن سابه أحد أو قاتله، فليقل إني صائم.”

 

نجد أن الذي يحدث في حالة الغضب في رمضان بالذات هو احتراق مخزون الجلايكوجين سريعاً ليمد الجسم بما يحتاج إليه من طاقة أثناء الشجار والعراك والخصام، وفي هذا استنزاف لطاقة الجسم أثناء الصيام، فيحس الصائم بإنهاك شديد وتعب وإجهاد نتيجة استنزاف طاقته في غير محلها وعدم قدرته تعويضها بالطعام بالطبع لأنه صائم، وفي هذا تدريب عملي على التحكم في نزوة الغضب.

 

انظروا رحمة الله سبحانه وتعالى بنا حين يمدنا بالعون في هذا الشهر الكريم، فيعاقب الإنسان الذي يغضب فسيولوجياً بحيث يجعله لا شعورياً يكبح جماح غضبه ويكظم غيظه، فلا ينتهي الشهر إلا وقد تعود ألا يغضب. ليس هذا فحسب بل إن هرمون الأدرينالين هذا يضاعف من كميات إفراز البول فيؤدي إلى الجفاف والعطش فيؤكد على تعليم المسلم ألا يغضب، وأن يكسر هذه العادة السيئة في المسلم الذي لا يملك نفسه عند الغضب.

 

ثم من كان من المبتلين بعادة التدخين الخبيثة القاتلة، والتي تضرب أربعة من مقاصد الشريعة الإسلامية الخمسة في مقتل، فإن صومه عن هذا التدخين نهاراً – إن عقد النية- سيعينه عن الإقلاع عن هذه العادة الخبيثة، إن شاء الله.

 

وأما من كان من المبتلين بعدم التحكم في جارحة اللسان، فإن صوم جارحة اللسان طوال اليوم سيعلمه كيف يهذب لسانه ويصونه عن اللغو وعن الكذب والنفاق والغيبة والنميمة.

 

ومن كان من المبتلين بعدم السيطرة الكاملة على جارحة العين علّمه الصيام كيف يغض بصره عن كل ما يجرح صيامه ويثلم كماله.

 

ومن كان من المستسلمين لشهوة البطن المفرطين في الطعام ومن يعانون السمنة، فإن الصيام الذي يتبعه إفطار إسلامي متوازن، وأقول (إسلامي)، لأن في روحه مطبقاً لحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم “فثلث لطعامه وثلث لشرابه وثلث لنَفَسه” فإنه سيتدرب على أن يتحكم في شهوة بطنه.

 

ومن كان من المتكاسلين عن صلاة الجماعة، خاصة صلاة الفجر، فإن تذوقه لصلاة الفجر في المسجد في رمضان سيكون خير فرصة أن يعرف فيغترف، ويواظب عليها بعد رمضان.

 

إن المهم في رمضان ليس رمضان نفسه.. بل بالتأكيد ما بعد رمضان.. هل سيغيرنا رمضان، أم سنعود كما كنا؟
إلى كل من كان مدخناً قبل رمضان وعاد مدخناً بعده..
إلى كل من كانت فيه عادات سيئة مثل الغضب والكذب والنفاق والرياء والغيبة والنميمة وعاد بعد رمضان كما كان..
إلى كل من كانت فيه شهوة ونزوة تستأثره وتتحكم فيه كشهوة البطن والجنس والمال ولم يغيره رمضان فعاد كما كان..
إلى كل من تذوق حلاوة الإيمان والصلاة جماعة وصلاة الفجر في جماعة والمواظبة على قراءة القرآن في رمضان ثم عاد فهجر الجماعة والقرآن بعد رمضان..
إلى كل هؤلاء أقول: اسألوا أنفسكم قبل أن تُسألوا: لماذا لم يغيرنا رمضان؟.. بل أبعد من ذلك لا بد أن تسألوا أنفسكم: هل فاتنا رمضان؟ فالمهم في رمضان ليس رمضان نفسه، بل ما بعد رمضان..

 

إن رمضان ثورة على النفس وعاداتها، كما يسميه الرافعي في مقاله الذي يشرح فيه فلسفة الصيام. ودعوني أنقل لكم هذه الفقرة المهمة منه والتي ستنقلنا إلى بعد ثان من أبعاد رمضان.. يقول “إن الصيام فقر إجباري يراد به إشعار النفس الإنسانية بطريقة عملية واضحة كل الوضوح، أن الحياة الصحيحة وراء الحياة لا فيها، وإنها إنما تكون على أتمها حين يتساوى الناس في الشعور لا حين يختلفون، وحين يتعاطفون بإحساس الألم الواحد، لا حين يتنازعون بإحساس الأهواء المتعددة، وبهذا يضع الإنسانية كلها في حالة نفسية واحدة تتلبس بها النفس في مشارق الأرض ومغاربها، ويطلق في هذه الإنسانية كلها صوت الروح يعلم الرحمة ويدعو لها، ومن قواعد النفس أن الرحمة تنشأ عن الألم وهذا بعض السر الاجتماعي العظيم في الصوم، إذ يبالغ أشد المبالغة، ويدقق كل التدقيق، في منع الغذاء وشبه الغذاء عن البطن وحواشيه مدة آخرها آخر الطاقة، فهذه طريقة علمية لتربية الرحمة في النفس، ولا طريقة غيرها الا النكبات والكوارث، فهما طريقتان كما ترى: مبصرة وعمياء، وعلى نظام وعلى فجأة.”

 

إنني إذ أقرأ هذه الكلمات، أستشعر أن من موجبات تحقيق أعمال الصيام في النفس هذا العام (الثورة)، ثورة على النفس تعلي صوت الروح على همهمات مطالب الجسد، وتعلي صوت مطالب الأمة على وساوس مصلحة الفرد. إنها ثورة تعلم الرحمة وتعبر بها من داخل النفس إلى مشارق الأرض ومغاربها.

يريد رمضان أن يرى هذه الرحمة تجاه إخواننا وأخواتنا المنكوبين في بلاد الشام وفي بورما وفي كل مكان، فهل سُيحْيي الصيام الرحمة في نفوس أبناء الأمة على كل منكوبي الأرض وضعفائها؟ وهل سيحركهم تجاه نصرة الحق وأهله؟ أم سنظل نحن الصائمين القائمين مثل هذا العابد الساكت عن الحق الذي جاء في حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: “أن أوحى الله عز وجل إلى ملك أن اقلب مدينة كذا وكذا بأهلها.. فقال: يا رب إن فيهم عبدك فلاناً العابد لم يعصك طرفة عين. فقال: به فابدأ فإن وجهه لم يتمعَّر فيَّ ساعة قط.”

 

إن الأمة لا تعتبر برمضان كما قال الرافعي فتنتصر لضعفائها.. فليس لها غير طريق النكبات والكوارث يبصرها برسالتها والأمانة التي حملتها.. أو استبدال الله لها بغيرها.. كيف لا؟ وأهل الباطل يزدادون طغياناً وفجوراً، وأهل الحق يزدادون خوراً وسكوتاً وخضوعاً!

 

وأذكركم وأذكر نفسي قبل النهاية بالحديث القدسي “كل عمل ابن آدم له إلا الصيام فإنه لي وأنا أجزي به.” فأحسنوا صومكم وأخلصوا صلاتكم وأروا ربكم من أنفسكم خيراً. وأحذركم وأحذر نفسي بحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم “وكم من صائم ليس له من صومه إلا الجوع والعطش”. فأقبلوا على معرفة ربكم، وتذوقوا من معاني الوصال والقرب، وتفكروا في معاني التراحم والتكافل.. لعلنا لا نعود بعد رمضان إلى ما كنا عليه قبله.

 

اللهم أذقنا برد عفوك وحلاوة طاعتك، اللهم أقمنا بصدق العبودية بين يديك حتى لا نرجو غيرك ولا نطلب سواك.. اللهم اجعلنا في هذا الشهر الكريم من أوفر عبادك منك حظاً، وأعلاهم عندك منزلة.. اللهم اجعلنا من أجزل عبادك منك وداً وأكثرهم من معرفتك نصيباً.. اللهم إنا نسألك في هذا الشهر الكريم نصر عبادك المظلومين.

 

 

 لقراءة المقالة من صحيفة الوطن الرجاء الضغظ على الرابط أدناه :

http://www.alwatan.com.sa/Articles/Detail.aspx?ArticleId=17493