سبعة أيام في الهند

أكتب هذه الكلمات من داخل شبه القارة الهندية في زيارة عمل مع مجموعة من رجال الاعمال السعوديين في وفد رسمي من الغرفة التجارية الصناعية بجدة لحضور أول مؤتمر لوزارة المنشآت الصغيرة الذي أقيم في نيودلهي وافتتحه رئيس وزراء الهند.

 

وهذه هي المرة الأولى التي أزور فيها الهند, وبالطبع -كمعظم القراء الكرام- ذهبنا الى الهندوفي ذهننا تصورات معينة معظمها سلبية, ولكننا بعد زيارات عديدة للمؤسسات في قطاعات الصحة والتجارة والصناعة وتقنية المعلومات خرجنا بانطباعات جديدة مختلفة عن توقعاتنا السابقة فأحببت أن يشاركنا القارئ الكريم فيها.

 

من أهم الانطباعات التي خرجنا بها هي أن للهند رؤية واضحة وموحدة للنهوض بها كقوة اقتصادية عالمية خلال العشرين عاما القادمة, وهذا ما تؤكده كثير من مراكز الدراسات الاقتصادية وتقرير مفصل عرض في الـ CNN, وهذه الرؤية قد انتقلت من مرحلة التنظير الى مرحلة التنفيذ والتطوير ووضعت لها الآليات اللازمة لتحقيقها, ومن أوائل المفاهيم التي تستند عليها آليات تحقيق هذه الرؤية الاقتناع التام بالأهمية القصوى لتفعيل ودعم وتنشيط وانجاح المنشآت الصغيرة والمتوسطة في جميع القطاعات على مستوى الدولة, ذلك لما للمنشآت الصغيرة من دور حيوي وخطير في توليد وايجاد فرص جديدة للعمل واستيعاب شرائح واسعة من المجتمع في المجالات المختلفة وخفض نسبة البطالة وزيادة سرعة النمو الاقتصادي والتقليل من خطر الاعتماد على سلعة واحدة أو مصدر واحد للاقتصاد. والجدير بالذكر ان الهند لم تضع هذه الاهداف وآليات تحقيقها على الورق فحسب بل لقد بدأت التطبيق العملي وانشاء وزارة خاصة لها, واختارت وزيرة نشيطة تتمتع بصلاحيات واسعة, وقد رأينا بأم أعيننا بوادر النجاح في تطبيق هذه الاهداف وتجسد ذلك في المنشآت العديدة التي تم بالفعل ايجادها ودعمها وهي الآن تقوم بدورها الحيوي, ففي كل عام تولد أكثر من 130 ألف منشأة صغيرة جديدة ويولد تبعا لذلك أكثر من 660 ألف وظيفة جديدة, وينمو هذا القطاع كل عام بمعدل 9% وتزيد نسبة التوظيف بحوالي 4% سنويا.

 

وقد نجحت الحكومة الهندية في استحداث آليات عديدة تساعد على تحقيق هذه الاهداف, ومن هذه الآليات العديدة آلية تسمى الحزم أو التجميع (Clusters) واخرى تُسمى الحاضنة (Incubator), وآلية الحاضنة تعنى باحتضان المنشآت الصغيرة الى أن تقوى وتقوم بدورها في توفير الوظائف ودعم النمو الاقتصادي, ومن صور هذا الاحتضان إلزام القطاع الحكومي بشراء نسبة معينة من استهلاكاتها من هذه المنشآت الصغيرة, وصورة اخرى مساعدة المنشآت الصغيرة على الحصول على قروض بل وفي حالات عديدة تساعد الحكومة في توفير ضمانات القروض. أما آلية الحزم والتجميع (Clusters) فهي تعنى بتوفير مراكز متخصصة تخدم المنشآت المختلفة, فهناك مركز يخدم قطاع المنشآت الصحية وبناء المستشفيات وآخر لتصنيع الدواء وآخر لتصنيع المعدات الطبية, وكذلك الحال في القطاعات الصناعية والاقتصادية المتعددة الاخرى. والغرض من هذه المراكز هو تقديم كل ما يحتاجه القطاع المعني للنجاح والنمو, ودعمه بالخبرة, وتزويده بالمراجع والأبحاث وتفعيل دور تبادل المعلومات والتجارب بين المنشآت, وقد زرنا بعض هذه المراكز, وبالرغم من أن يوم زيارتنا كان يوم عطلة (السبت 21 ديسمبر 2002) إلا أن المراكز التي زرناها كانت مكتظة بالشباب والشابات العاملين, وهم أشبه ما يكونون بخلية نحل عاملة, فالكل منهمك في عمله. أما الملاحظة الثانية التي اتفق عليها وفد رجال الاعمال المشاركين جميعهم في هذه الزيارة فهو مستوى النظافة في مدينة (حيدر أباد) حيث ان مستوى النظافة فيها لايقل عن مدينة جدة بل وفي بعض الشوارع الفرعية حالها أفضل, والذي اعجبنا هو نجاح مسؤولي مدينة (حيدر أباد) في تغيير سلوكيات مجتمع المدينة, ورفع مستوى الوعي بغض النظر عن الحالة الاقتصادية للمجتمع لكي تفوز هذه المدينة بجائزة (أنظف مدينة في الهند) لثلاث سنوات متتابعة, والذي أثلج صدورنا هو أن قرابة 45% من سكان المدينة من المسلمين, وقد تحدثنا مع العديد من رجال الاعمال المسلمين النابغين. وهذه المدينة معروفة بالتقدم في تقنية المعلومات, وقد قصدتها كبرى شركات تقنية المعلومات الدولية لتبنى فيها مراكز للدراسة والبحث والانتاج والتصنيع بالرغم من ان عدد سكانها لايزيد عن 6 ملايين نسمة الا ان تصديرها لتقنية المعلومات يفوق البليون دولار, علما بأن حجم صادرات الهندلتقنية المعلومات يزيد عن 8 بلايين دولار سنويا, وتهدف الهند إلى ان يصل الى 60 بليون دولار سنويا خلال السنوات العشر القادمة (أي ما يعادل ضعف دخل البترول للمملكة العربية السعودية سنويا) لكي يصبح دخل الهندمن تصدير تقنية المعلومات فقط ضعف دخل المملكة العربية السعودية سنويا من البترول.

 

أما الملاحظة الثالثة فهي البنية التحتية للهند والاكتفاء الذاتي في كثير من القطاعات, ومثال ذلك قدرة الهندعلى تصنيع الأغلبية العظمى من الأدوية حتى وصل عدد مصانع الدواء المسجلة 22 ألف مصنع دواء. أما الملاحظة الرابعة فهي تعدد وجمال آثار الحضارة الاسلامية في مدن الهند المختلفة والعمل الجاد والمثابر لمسلمي الهندهناك الذين يفوق تعدادهم المائة وعشرين مليون مسلم, لاثبات وجودهم في ظل من التحاور واثبات الذات بالعمل والعلم.

 

لقد كانت هذه نبذة سريعة وخاطفة لبعض الانطباعات التي أجمع عليها وفد رجال أعمال الغرفة التجارية الصناعية بجدة في زيارتهم للهند.

 

اننا في عصر التكتل والتسارع والتنافس بين كل من الصين واليابان وامريكا والاتحاد الاوروبي وماليزيا والهند, والفجوة تزداد يوما بعد يوم بين تلك القوى وبين دول العالم الثاني المبعثرة هنا وهناك, ومن كنا بالأمس لا نقيم لهم وزنا ولا نعير لهم بالا ونرى أنفسنا خيرا منهم, قد سبقونا بعشرات السنين, وكل يوم يمر تتباعد بيننا وبينهم الفجوة.. فمتى سنفيق من غفلتنا؟؟

 

نشر بجريدة عكاظ – الثلاثاء 27 شوال 1423 هـ الموافق 31 ديسمبر 2002 م