سيكولوجية الاستبداد وجرائم الإبادة الجماعية

شهد المسرح الإنساني على مر العصور جرائم إبادات جماعية يندى لها جبين الدهر .. هذه الجرائم كانت وما زالت محط أنظار كثيرٍ من علماء النّفس في محاولة لفهم كيفيّة تحكّم فردٍ أو مجموعةٍ صغيرةٍ بعقولِ الآلاف لتنفيذ أوامرهم في إبادة شعب بأسره .. فلا “نيرون” ولا “هولاكو” ولا “ستالين” أو “موسيليني” ولا الرئيس الصربي “ميلوسوفيتش” ولا “صدام حسين” كان باستطاعتهم تنفيذ جرائم الإبادة الجماعية بمفردهم دون من يطيع أوامراهم .. فكيف استطاع هؤلاء الطّغاة التّحكّم في عقول الآلاف لتنفيذ جرائمهم؟

 

لقد وَجَدَت الدّراسات النّفسية أن هناك عوامل وأبعاداً سيكولوجية مشتركة في جميع الإبادات الجماعية، ولفهمها لا بدّ من فهم سيكولوجية السُّلطة الاستبدادية وسيكولوجية الطّاعة.

 

أمّا سيكولوجية السّلطة الاستبدادية في الأنظمة الديكتاتورية أو التوتاليتارية فهي أبشع أنواع الاستبداد، وهي تؤدي إلى تغيير في سلوك الأفراد في المجتمع نظراً للمحيط الذي تخلقه. ومن سمات وخصائص السّلطة الاستبدادية الخوف والحذر وعدم الثقة بالجماهير وخداعهم والمكر بهم واستخدام العنف والقمع ضد كل مناوئ لسلطتها، وكونها تدرك أن الشعوب ستثور عليها إن توفّرت لها الظّروف، فإنها تلجأ إلى تشويه الحقائق باستخدام كل الوسائل المُتاحة، وخاصة الإعلام، لتزييف وعي الجماهير وضمان وقوفهم إلى جانب النّظام ضد من يسمونهم بأعداء السّلطة، وبذلك يُستَخدَمُ الإعلام كوسيلةٍ للترغيبِ والترهيبِ وتطويعِ الجماهير لإرادة المستبد.

 

ويَعمَد المُستَبِدُّ إلى منع الإجتماعاتِ والتَّجَمُّعات الثّقافية والإعلام الحر، واتخاذ كافة السُّبُل لزرعِ الإحساسِ في المواطنِ أنّه غريبٌ في وطنه، بل وإجبار المواطنين على الخسّة والهَوَانِ والضَّعَةِ والذُّلِ، ونشرِ الجواسيس في كل مكان، وإغراء المواطنين بعضهم ببعض لزعزعة الثّقة بين أفراد المجتمع، فيأمن الطّاغية المُستَبِدُّ على نفسه، وغالباً ما يكون المُستَبِدُّ مُصَاباً بواحدٍ أو أكثر من الأمراض السّيكولوجية مثل الشخصية النرجسية أو البارانوية  أو الميكيافيلية أو السّيكوباثية.

 

وفي كثير من الأحيان يجمع الطّاغية المستبد صفاتٍ مشتركةٍ يصنِّفها علماء النفس والإجتماع تحت بند “الشخصيّة البارانوية الملوّثة بسمات سيكوباثية ونرجسية.”

 

أما الشّخصية البارانوية(Paranoid Personality)  فتكون غالباً نتاج طفولة مضطربة افتقدت دفء أحد الأبوين أو كليهما، فيتعلم الطفل (طاغية المستقبل) عدم جدوى التّعاون مع الآخرين أو الثقة بهم، وأن العالم من حوله يتَّسم بالقسوة والعدوانية، ولا مكان إلا للقوي المُستَبد. والشّخصية البارانوية لا تعرف النّيات الحسنة  .. فتُحقّر العواطف مثل الحب والرّحمة والتّعاطف وتصبح القيمة السائدة عندها هي القوة والسّيطرة.

 

وبالنسبة للشّخصيّة النّرجِسِيَّة فهي شخصيةٌ مفرطةٌ بحبِّ الذّات والإحساس بالفوقية والأفضلية على الجميع.

وفيما يخص الشّخصيّة الميكيافيلية فهي شخصية معقّدة انتهازيّة من سِماتِها الرئيسية أنها تؤمن بنظرية “الغاية تبرر الوسيلة.”

 

أما سيكولوجية الطّاعة فهي تدرس دواعي انصياع الآلاف من البشر لرغبات وأوامر المُيول العُدوانية لمن بيدهم صنع القرار ولتفسير الإبادة الجماعية، فإن الفرد في هذه المجتمعات غالباً ما يُبرِّرُ لنفسه ما يفعله بإلقاء اللّوم على القادة الذين يصدرون الأوامر، وتؤكد الدراسات ما للثقافة والدين في المجتمع من ترسيخ مفهوم الطّاعة والخضوع عند شريحة واسعة في المجتمع عندما تستغل لصالح السلطة الاستبدادية.

 

تبدأ القصة بوصول طاغية مستبد إلى سدّة الحكم .. وبحكم شخصيته المريضة فإنه يجذب إليه العبيد من الرجال، وبما أنه يحمل نَفساً وضيعةً خاويةً فإنه يشعر دائماً بالخواء النّفسي والعاطفي، يحاول أن يملأ هذا الخواء بإخضاع عدد أكبر من الناس تحت سلطته ولكنه لا يجدُ الإشباع، فيستمرُّ في محاولاته ليوسّع من إخضاع أكبر عدد ممكن من البشر ولكن لا فائدة .. يزداد عنده الإحساس .. يشعر بالخواء الدّاخلي ويدخل في دائرةٍ مفرغةٍ ويشعر بالشّقاء والاكتئاب، وتزيد القوة التي يملكها من انحرافه النفسي فيزدادُ فيه الغدرُ والخديعةُ واللّؤم والظلم والفجور، فلا يعرف الصّداقة ولا الإخلاص ولا الوفاء بالوعود، فالنّاس كلهم خونة يريدون إسقاطه عن عرشه، ولذلك تجد كثيراً من هؤلاء يقتلون أقرب الناس إليهم دون أي رحمة أو شفقة أو ندم.

 

كما أنّ الطّاغية يجتذب حوله أخسّ النّاس وأَوْضعهم وأشدَّهم خُبثاً، يرضون أن يكونوا له عبيداً ليكونوا هم أسياداً على من تحتهم، وهلم جراً .. حتى تجد المجتمع كلّه لا يعدو إلا أن تُصبح الغالبية العظمى فيه عبيداً لمن فوقهم وأسياداً لمن تحتهم، ولا يبقى من الأحرار إلا من في السُّجون أو المُختَفين عن الأعين قدر المستطاع.

 

وتتم البرمجة الاجتماعية لصناعة الإنسان “النموذجي” لهذا المجتمع المستبد -أو كما يُطلِق عليه كتاب “حرّر ذاتك .. منك” بالفيل “المطيع”. ويشرحه كالتالي “يعتاد فيل السّيرك منذ صغره ربطه بشجرةٍ كبيرةٍ بواسطة حبلٍ غليظٍ ومتينٍ لكي لا يتحرك من مكانه، ويحاول الفيل مرّات عديدة التحرّر من قيدِهِ ولكنه يعجز عن ذلك نظراً لأن الحبل متين والشجرة قوية ولكونه صغير. وعندما يكبر هذا الفيل ويصبح بطبيعته قادراً على اقتلاع الشجرة أو قطعِ أغلظِ الحبالِ بسهولة إلا أنه لا يستطيع التحرّر من قيده حتى لو ربط بحبلٍ رقيقٍ وبعمودٍ هش. والسّبب في ذلك أنه قد زَرَعَ مراراً أو تكراراً في “اللاوعي” عند الفيل فكرة عجزه عن التحرر من قيده منذ صغره ، حتى أصبحت جزءاً من نظام معتقداته التي لا تقبل التشكيك في كبره، وبذلك يصبح المدربون “مطمئنين” إلى أن الفيل الضّخم القوي أصبح عاجزاً عن “التمرد” وبإمكانهم التحكّم فيه وضبطه والسيطرة عليه.”

 

وكذلك الحال في المجتمعات الديكتاتورية .. يتم تأطير وضبط جميع أفراد المجتمع من خلال الإيحاء والإعلام الموجّه والإعلان والثّواب والعقاب، فيصبح إنسان هذا المجتمع كالفيل المُطيع لا يدرك قوّته، وقد تأصّلت فيه فكرة عجزه عن اكتساب حريته.

 

إن مجتمعاً ما لكي ينفك من قبضة المستبدّ وزبانيّته يحتاج إلى تضحيات كبيرة .. لأنه سيواجَهُ بأعدادٍ كبيرةٍ من العبيد للطاغية لا يجدون أي حرجٍ أو خوفٍ أو رادعٍ من ارتكاب أفظعِ وأبشعِ الجرائم ضد الإنسان الذي يأبى أن يرضخ ويركع للطاغية.

 

وما يحدث في سوريا في أيامنا هذه هو نتيجةٌ متوقَّعةٌ لخمسةِ عقود من حكّام طغاةٍ مستبدين، وتكوين جيش من المرتزقة العبيد الذين لا يعصون الأوامر مهما كانت، بل إنّهم يقومون بواجبهم تجاه سيّدهم كعبيدٍ لا يفكّرون لحظةً فيما يفعلون فيقترفون أسوأ جرائم الحرب ضد مدنيين .. لا يفرِّقون بين شيخ أو امرأة أو طفل، القتل عندهم رحمةٌ والتّعذيب فنٌ ومتعةٌ وتقطيعُ الأطرافِ وإحداث العاهات المستديمة جزءٌ لا يتجزأ من طقوس الولاء لسيّدهم. يستعملون الأسلحة المحرمة دولياً دون أدنى خوف أو تردد، فهم لا يخافون من أحد سوى سيدهم الذي يأمرهم ويطيعونه، يغتصبون النساء أمام ازواجهم بل والأطفال، رنهم اسوأ من الحيوان .. فهم ممن رُدّوا إلى أسفل السّافلين.

 

لقد رأيت بأم عيني في سوريا بعض آثار أعمال هؤلاء المجرمين .. وما خفي داخل سوريا مما ستكشفه الأيام أكثر بكثير.

 

سينتهي الطّاغية بشار وجيشه المريض القذر كما انتهى من قبله من طغاةٍ مستبدّين.

أين نيرون وأين هولاكو وأين هتلر؟ أين الفاشي موسوليني؟ وأين ميلوسوفيتش؟ وأين صدام حسين والقذافي؟

 

سيذهب بشار الأسد كما ذهب الطّغاة من قبله أجمعين، وسيبقى الشعب السوري الحرّ الأبي ليسطر التاريخ أنه شعب استطاع أن يقول للطاغية (لا) وينفكّ من قبضته، على الرغم من صعوبتها، لأنه آثر الموت حراً على الحياة ذليلاً تحت حكم طاغية مستبد مجرم فاسق.

 

تحية لكم يا أبناء الشام وبشارة لكم، إن دولة الظلم قد انقضت ساعتها وحان رحيلها، فدولة الظلم ساعة ودولة الحق إلى قيام الساعة.

 


لقراءة المقالة من صحيفة الوطن الرجاء الضغظ على الرابط أدناه :

http://www.alwatan.com.sa/Articles/Detail.aspx?ArticleID=10416