“كما ربياني صغيرا”

يختلف الإنسان عن باقي المخلوقات التي تمتلك ذلك الجزء من الجسم الذي يسمى الدماغ (أداة التفكير)، في أن دماغ الطفل يتكون ويتشكل بعد الولادة في السنوات الأولى من عمره، بل يُنظر للبيئة والظروف الخارجية والأحداث على أنها التي تعمل على تكوين دماغ الطفل، وما اختلاف شخصيات الأطفال إلا انعكاس اختلاف أدمغتهم وطريقة تشكيلها وتكوينها وبلورتها في السنوات الأولى من حياة الطفل. “والله أَخرجكم من بطون أمهاتكم لاَ تعلمون شيئا وجعل لَكم الْسمع والأَبصار والأَفئدة لَعلكم تشكرون“.

 

وبما أن السنوات الأولى من حياة الطفل تكون في البيت، فإن للوالدين الدور الأكبر في تشكيل هذا الدماغ وطريقة التفكير والتي ستنعكس مستقبلاً كطريقة حياة وشخصية رجل وامرأة المستقبل. هذا الدماغ الذي يُحرم نموه الطبيعي في من فقدوا الأب أو الأم من الأيتام، مما يؤدي -بناءً على دراسات عديدة- إلى ضمور أجزاء من الدماغ ليبقى هذا الضمور مع الطفل مدى الحياة.

 

وقد وُجد في دراسة منها أنه يمكن معالجة هذا الضمور نسبياً، بانتشال الأطفال في مرحلةٍ مبكرةٍ من العمر من دور الأيتام ووضعهم مع عوائل تتبناهم وترعاهم في بيوت لتعزيز الرعاية الأسرية، لكن يبقى هذا التغيير تغييراً نسبياً. وقد أكدت الدراسات أيضاً أن تأثير الوالدين على الطفل أكبر بكثير من تأثير المدرسة والمعلمين والأصدقاء.

 

ولا عجب أن يخصص لهما الدعاء في كل صلاة “رب اغفر لي ولوالدي”.. ولم يزل يأمرنا به القرآن “وقل رب ارحمهما كما ربياني صغيرا”. وهذه التربية الوالدية هي بمثابة تشكيل وتكوين هذا الدماغ الذي سيشكل لاحقاً عقل هذا الإنسان المكلف وأداة التفكير المتحكمة في أفعاله، بل إن الذكاء العاطفي يتكون في السنوات السبع الأولى من حياة الإنسان والتي يُنظر إليها على أنها أكثر عوامل نجاح الإنسان في المستقبل.

 

يستقي الطفل من أمه في السنوات الأولى الحب غير المشروط والعطف والحنان ويُحفُّ من والده بالرعاية وتهيئة المعيشة في خير مكان، والحماية من تقلبات الأيام والزمان. وتُحفر في ذاكرة الطفل، وهو ما زال يحبو، كيف تقف أمه في الصلاة بكل تؤدةٍ وخشوعٍ وتبتلٍ، لا تلتفت لشيءٍ، حتى إذا بلغ السابعة من عمره تعلم من أبيه حب بيوت الله وصلاة الجماعة وقرآن الفجر، بل وبناء بيوت الله والوقوف عليها وهي تبنى حجراً حجراً، ليصبح هذا الأنموذج طريقة حياة يتشكل بها دماغ طفل ابن السابعة وعقل رجل ابن الأربعين، وليصبح بناء بيوت الله يجري في جسده جري الدم في العروق.

 

ويتعلم الطفل حب القراءة والعلم، وهو يرى متعة أمه في الحياة شراء الكتب واقتناءها وقضاء الساعات الطوال في القراءة بعيداً عن عالم الماديات والكماليات ومتاع الدنيا وزخرفها، فيتعلم المعنى الحقيقي للغنى.. غنى النفس والعقل عن الحاجة للأشياء، فيعيش الطفل عالم الأفكار لا عالم الأشياء، وتصبح طريقة حكمه على الأمور من منطلق القيمة الحقيقية لها، ويأتي الأب الذي ينفق، فيكون التطبيق العملي لهذه التربية، فيغدق بسخاء على كل ما يعين على بناء العقل والروح وما يصقل الشخصية، ويمسك عن كل ما من شأنه أن يسطح الفكر أو يقتل العقل أو يميت الروح، بل ويرى الطفل أباه يكتب وينشر، ليرسخ في ذهنه قوة القلم الذي علم الله به “الذي علم بالقلم”، ليصبح تفعيل القلم له طريقة حياة. ويتعلم الطفل من أمه الحلم والهدوء حتى في المصائب، والصبر على تقلبات الحياة، ويتعلم من أبيه الصبر الإيجابي.. الصبر على العمل.. الصبر الشامخ المتحدي الذي يؤمن أنه يستطيع أن يغير واقعاً يستحق التغيير.

 

يتعلم من أمه الحكمة والروية وتقديم مصلحة الأسرة على مصلحتها، لتصبح حياتها كلها وقفاً لأبنائها وبيتها، ويتعلم من أبيه دروساً في الحياة لا تنسى.. وهو ابن السابعة يبيع مع أبيه في محله الصغير، يتعلم كيف يزن للمشتري بدقة وكيف يقدم مصلحة المشتري إذا صعب عليه وتعذر أن يرى كفتي الميزان معتدلتين، فيتعلم بذلك الورع والصدق والأمانة والعدل في الميزان لتصبح كلها طريقة حياة شعارها “ألا تطغوا في الميزان“.

 

يتعلم من أمه القوة الحقيقية وكيف يجب أن يملك المؤمن نفسه عند الغضب “ليس الشديد بالصرعة، إنما الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب”، ويتعلم من والده الشجاعة والإقدام وقول كلمة الحق في أي محفل ومكان.. يرى والده يصعد المنبر ويخطب الجمعة عندما يغيب الإمام، وما من أحد يملك الجرأة والشجاعة على أن يفعل.. يصعد المنبر يخطب مرتجلاً دون تحضير ودون سابق إنذار لتصبح هذه الصورة التي حُفرت في عقل الطفل طريقة حياة، بل واجباً لتفعيل دور المنبر في الحياة.

 

يرى أمه تعمل بالبيت وقد كرست حياتها من أجل أبنائها وتربيتهم وتدريسهم ساعات طوالاً كل يوم، لبناء أطفالها بكل مثابرةٍ وجدٍ وإخلاصٍ.. عملٌ دؤوبٌ.. لا تكل ولا تتعب، ويرى والده يؤصِّل عنده قيمة العمل والمثابرة والكفاح والإصرار خارج البيت، إيماناً بقيمة العمل وإيماناً بأن الله لا يضيع أجر المحسنين.. تفاؤلٌ وحسن ظنٍ بالله.. إيمانٌ يضاعف الطاقة للعمل والمجاهدة أضعافاً مضاعفةً. ويتعلم الشاب من أبيه عظيم أجر مهنة الطب ورعاية المرضى والحرص على دعوة المريض، ليصبح هذا أهم هدف في حياة الطبيب يسعى إليه.. دعوةٌ صادقةٌ من مريض تفتح لها أبواب السماء.

 

ويطبق ما رآه من والده في التعامل مع المال، فيحرص على دوام طهارته كسباً وإنفاقاً، والبعد عن الشبهات والربا بكل صوره وأنواعه، حتى ما تلبس بلباس الطهر والحلال ليخدع الأبصار، والحرص على إيصال الزكاة لمستحقيها بدقة وإخلاص، وتطبيق مفهوم الصدقة الخفية، وإعطاء الأجير أجره قبل أن يجف عرقه، وألا يقطع عادة خير، ولا يغير فيغير الله عليه.

 

كل رجلٍ كان يوماً طفلاً، وكل امرأةٍ كانت يوماً طفلةً، ويوم كان الطفل كان العقل يتشكل ويتطور، وكان الأب والأم هما اللذان يشكلانه ويطورانه أكثر من أي شيء آخر في حياة الطفل. نعم إنما نحن نتاج عقلٍ كان يوماً يتشكل ويتطور بين يدي والدينا.

 

ولتعظيم هذه العلاقة المميزة الفريدة بين الآباء والأبناء، جعل الله دعوة الابن لأبويه بعد مماتهما من الأعمال الموصولة التي لا تنقطع “ولدٌ صالحٌ يدعو له” لأنها حقاً امتدادٌ لأعمالهما بما ساهما في تشكيل عقل الأبناء وبالتالي أعمالهم وسلوكهم وأخلاقهم، فيجنون بذلك ثمار ما زرعوا وجاهدوا ليربوا، ولذلك قال تعالى: “أن اشكر لي ولوالديك إلي المصير“.

 

 

لقراءة المقالة من صحيفة الوطن الرجاء الضغظ على الرابط أدناه :

 

http://www.alwatan.com.sa/Articles/Detail.aspx?ArticleID=14000