كن صاحب رسالة .. كن صاحب قضية

 

ما كتب الله لخير أن يكون في الأرض إلاَّ واختار له من يحمله، فنظر العليم في قلوب عباده أيها أصلح لحمل هذا الخير، فقذفها سبحانه قطرة في بحر وعاء قلبه وما أن لامست سطحه حتى تمددت واتسعت وصبغت كل ما فيه بلونها وتعمقت فيه وترسبت ووصلت إلى القاع حتى لا يبقى في الوعاء قطرة أو ذرة إلاَّ وصبغت بما فيه من خير حتى ليطرد كل ما دون ذلك، وإذا تم ذلك واكتمل أصبح صاحب القلب هذا يُعَرَّف بما احتوى عليه وعاء قلبه وفاض وأصبح هَمٌّه الشاغل، وعندئذ فقط يصبح حامل هذا القلب صاحب رسالة .. وصاحب قضية.

 

وأصحاب القضايا هؤلاء نادرون يأتون على وجه الأرض على قدر ماكتب الله للأرض من خير يكون في عصرهم، وللواحد منهم علامات وصفات لا تخطئهم..

*فمن علاماتهم أنهم يحيون لرسالتهم وقضيتهم التي يحملونها أكثر مما يحيون لأنفسهم، ويعيشون لغيرهم أكثر مما يعيشون لذاتهم فَيزداد بذلك شعورهم بالحياة على قدر ما يشعرون بالخير الذي يحملون، فنجد الواحد منهم سعيداً بهذا الشعور سعادة لا يفهمها أو يدركها غيره من الناس وتضفي عليه هذه السعادة حياة فوق الحياة حتى ليكون إحساسهم وشعورهم بالحياة مضاعفاً فهم يكسبون أياماً فوق أيامهم وأعواماً فوق أعوامهم فالحياة ليست بعدد الأيام والأعوام وإنما بعدد المشاعر التي نحياها، وبذلك تكون الحياة لهم أطول وأقيم من غيرهم حتى وان فارقوا الحياة في شبابهم، وهل تقاس الحياة إلاَّ بقدر شعورنا بها؟..
ويرزقون بذلك طاقة عَجيبة فوق طاقاتهم، وينجزون في فترة قصيرة ما يعجز الآخرون عن إنجازه طوال حياتهم، وكيف لا يكون ذلك وهم ينهلون من النبع الحقيقي الصافي للطاقة الذي يضفي الحياة على كل شيء كائن ما كان وما سيكون
   .

 

 *ومن علاماتهم أنك تجد آثار سجود قلوبهم وجوارحهم في محراب الحياة وعمارة الأرض ونفع الإنسانية أكثر مما تراه في غيره من صور العبادات، فيكون الواحد منهم بمثابة المعنى الصحيح المتحرك العامل الذي يصحح الله به ألف معنى خاطئ قولاً وفعلاً    .

 

*ومن علاماتهم أن شدة حرصهم على تحقيق غاياتهم النبيلة لا يزيدهم إلاَّ حرصاً على تطهير وسائل تحقيقها، فالروح التي تموت لغياب الهدف النبيل هي الروح ذاتها التي تمرض وقد تموت لتلوث وسائل تحقيق هذا الهدف، فتجدهم يضيقون ذرعاً بالوسائل الملتوية وان أُلبست في عُرف مجتمعاتهم ثياباً غير ثيابها وسُميت بأسماء غير أسمائها وتبلدت الأحاسيس تجاه قُبحها، فيسمون الأشياء بأسمائها الحقيقية لا كما زينتها الشياطين لأهواء الناس وزيفتها المجتمعات لتحقيق مصالحها وتلبية رغباتها وشهواتها، وهم إذ يفعلون ذلك لا يفعلونه إلاَّ لحماية أرواحهم وهي تتعامل مع الأسباب لأنهم يدركون أنها أقيم ما يملكون بما امتلأت به من الخير الذي يحملون.

 

 *ومن علاماتهم أنهم يفرحون إن شاطرهم الناس أفكارهم بل وان سرقوها منهم ونسبوها لأنفسهم، فرحتهم لحمل الآخرين همَّ رسالتهم وقضيتهم مما يزيد سرعة إنتشارها وقرب إنتصارها، والمحاسب عندهم هو الرقيب العليم سبحانه وهم يدركون أنهم ليسوا إلاَّ وسطاء خير وأدواتٍ بين يدي خالقهم يحقق بهم قدره وينشر بهم خيره.

 

*ومن علاماتهم أنهم يزدادون إستشعاراً وإحساساً وإدراكاً بقوة وعظمة خالقهم كلما ازدادت قوتهم، فلا ترى الزيادة بكل أشكالها تصيب الواحد منهم إلاَّ تعميق جذور إيمانه برسالته وقضيته وتوثيق نَصر الخالق له.

 

*ومن علاماتهم أن الواحد منهم إذا تحدث عن رسالته وقضيته التي يؤمن بها والخير الذي فيها تجاذبت له القلوب قبل أن تدركه العقول، ذلك أن الخير الذي امتلأ به وعاء قلبه وفاض هو الذي يخاطب الخير الذي في غيره من العباد، فيتجاوب العنصر السماوي الخالص في طبيعة الإنسان المستمع له أياً كان فيستجيب    .

*ومن علامة الواحد منهم أن النجاح والتمكين لا يأتيه إلاَّ بعد ابتلاء واختبار وتمحيص، وتجري عليهم سنن وقوانين الزراة والزراّع من وضع بذرة الخير وتحمَّل أعباء رعايتها والصبر عليها حتى تنمو وتضرب لها جذوراً عميقة في الأرض ليكون أصلها ثابتاً وفرعها في السماء وتثمر وتؤتي أُكلها كل حين بإذن ربها.

أما بذرة الشر فقد تَهيج وتنفش سريعاً وترتفع في السماء بلا جذور وما لها من قرار 

    
*
ومن علاماتهم أنهم لا يستنكفون طلب العون في تحقيق غاياتهم النبيلة ونشر رسالتهم والذود عن قضيتهم، فكرامة الواحد منهم هي في كرامة قضيته ونصرها وعزته في عزتها وتحقيق ذاته لا يكون إلاَّ في تحقيق وجودها
.   

 

*ومن علاماتهم أنه لا يفوق عملهم الدؤوب الجاد المتصل إلاَّ تفاؤل يسبقه ويحذوه، واشراقة على الدنيا وثقة وإيمان لا يحسبه أهل الحسابات المادية إلا تفاؤل الحالمين، فهم ينظرون إليهم بعين قوانين الحساب وهم ينظرون لقوانين الدنيا بعين حاجتها وتعطشها للخير الذي يحملونه في وعاء قلوبهم، ولسنة الله في خَلقه وأرضه ورعاية خالقهم لهم وإحتفائه بهم بما استودعهم اياه من خير وأمانة هي مِنْه سبحانه وإليه. 

 

*ومن علاماتهم السماحة والعطف والإشفاق على ضعف الناس وعجزهم وتقصيرهم وأخطائهم ونقائصهم، فَهمُّهم الشاغل هو نشر الخير الذي امتلأ به وعاء قلوبهم لا تصيد أخطاء الناس وعللهم، بل يؤمنون أن في كل نفس خلفها الله ذرات خير وبذور صلاح، وأن الشر الذي نراه منهم ليس كل ما فيهم بل قد يكون محصوراً على تلك القشرة الخارجية الصلبة القاسية التي يواجهون بها صلابة الدنيا وقساوتها، وبذلك هم يبحثون دائماً عن ذرة الخير وبذرة الصلاح هذه بالوصول إلى ما وراء القشرة الخارجية، ويفرحون أيما فرح عندما يجدونها أو يصلون إليها في من لا يظن الناس فيهم إلاَّ شراً فهم لذلك يُغَلِّبون حُسن الظنِ بالناس في كل معاملاتهم، والواحد منهم ليس بالساذج أو الخُب بل وقد يكون من أدْهي الناس وأشدهم فطنة وذكاء.

 

*ومن علامة الواحد منهم أن قضيته تجذب له من الأصحاب والأعوان من يُحبه حُبَّاً لا يشتريه مال ولا سلطان، من الذين عرفوه قبل أن يروه، لأنهم عرفوه بالخير الذي يحمله ويدعو له واستقر في قلوبهم منذ زمن قريب كان أو بعيد، كما أن قضيته تجذب له من الأعداء ممن لا يعاديه إلاَّ بما يحمل ويدعو له، عداوة الشر للخير والباطل للحق والظلام للنور فلا يزداد بتلك العداوة إلاَّ عزيمة وثباتاً وثقة بنصر الله     .

 

*ومن علاماتهم أنهم لا يفزعون من الموت متى يأتي إيماناً بقول المصطفى صلوات الله وسلامه عليه قال: "قال الله: إذا أحب عبدي لقائي أحببت لقاءه"، ولكن يفزعون كيف يكون حالهم حين يأتي وعلى أي حال يجيء، فالحياة عند الواحد منهم كتاب لابد أن يطوى، فلا يبالي متى يطوى، ولكنه يدرك أن العبرة بكمال النهايات لا بنقص البدايات، ويود أحدهم لو كان بيده أن يسطر آخر كلمات فيه فيكون تمام كمال نهايته هو خير شفيع لأي نقص في بدايته.

 

* ومن علاماتهم بعد موتهم أنهم إذا ماتوا وكسر الوعاء انسكب ما فيه من خير حملته أوعية كثيرة وسقيت به البلاد والعباد فترى الخير الذي حملوه في حياتهم لا يموت بل ينتشر بعد مماتهم أكثر وأسرع مما انتشر في حياتهم ويمتد ويتسع ويستمر عقوداً مديدة بعد موتهم فلا يزيد الموت ذكرهم إلاَّ حياة، ولا يزيد قضيتهم إلاَّ نصراً وتمكيناً وانتشاراً دليلاً قاطعاً بحماية الرحمن لجهودهم ومباركته لما حملوا في حياتهم وزيادة لهم في الأجر والثواب من لدن من يرزق بغير حساب.

على يد مثل هؤلاء يُجري الله الخير الذي كتب في الأرض لعز عزيز أو بذل ذليل برعاية إلهية جلية أوخفية وبسنن أرضية وسماوية وكرامات وعطاءات ربانية.

 

إذا ردت أن تعيش الحياة بطولها وعرضها أضعافاً مضاعفة على قدر مضاعفتك لعداد المشاعر التي فيها والتي بها تقاس الحياة لا بعدد سنينها، وإذا أردت أن تملأ حياتك حياةً وسعادة ونفحة سماوية
فكن صاحب قضية

 

عكاظ   لقراءة المقالة من صحيفة عكاظ الرجاء الضغط على الرابط أدناه

http://www.okaz.com.sa/okaz/osf/20080527/Con20080527198054.htm