كيف نجعل أبناءنا مبدعين؟

سطرت صفحات التاريخ سيرة رجال أفذاذ، أبى التاريخ إلا أن يخلد إبداعاتهم بأحرف من نور. دخلوا الدنيا ببدايات متواضعة وما خرجوا منها إلا بعدما حفروا على صخور الأرض وصفحات التاريخ كلمات ومواقف بقيت مئات السنين بعدما ذهبوا.


والناظر المتأمّل في تاريخ هؤلاء المبدعين يرى أنه على اختلاف وتنوع صورهم وأشكالهم ولغاتهم ونفسياتهم وخلفياتهم ووسائلهم وأهدافهم وإنجازاتهم، إلا أن هناك عاملاً واحداً يشتركون جميعاً فيه، هذا العامل هو الإيمان بالقضية التي يعملون من أجلها، والإنصات والإصغاء لما تمليه عليهم أفئدتهم وقلوبهم. لا يبالون إن كذبهم الجميع، أو سخر منهم الجميع، أو خطأهم الجميع، وهم يشقون طرقاً وعرة ويتحملون مشقات عظيمة، بينما ينعم الكل من حولهم بملذات الدنيا ونَعيمها. هم مبدعون، ومبتكرون، ومخترعون، ومجددون، لأنهم ما تعودوا أن يكونوا متبعين أو مُقلِّدِين. كل ما يصدر عنهم يصدر خالصا من خويصات أفئدتهم ولب قلوبهم.


والعجيب في الأمر أن كثيراً من هؤلاء المبدعين العمالقة قد واجهوا في بداية حياتهم صدّاً من أقرب الناس إليهم ولو بحسن نية وطيب قصد، فمنهم من شق طريقاً غير الذي كان والداه يحلمان به له، منهم من كان يحلم والداه أن يكون طبيباً فصار أعظم قضاة عصره، ومنهم من كان يحلم والداه أن يكون مهندساً فصار أعظم كتاب وشعراء عصره، والتاريخ مليء بمثل هؤلاء.


إن الإبداع يبدأ بحلم يطرق الفؤاد ليوقظه من سباته، فإذا استيقظ القلب زادت وقويت ضرباته ودقاته، وسار الدم في عروقه فارتوت أطرافه وبثت فيه حياته، فانصاعت له أعضاؤه وحواسه.


والإبداع يستلزم الإيمان بما تعمل، وهذا الإيمان منبعه القلب لا يدري المرء من أين جاء، إلا أنها رسالة خُلق من أجلها وأوتي الملكات لتحقيقها، وكل ما عليه هو أن يستمع إلى قلبه وفؤاده، وهناك فرق كبير بين النجاح والإبداع.


قد يخطئ الآباء والمربون، وقد أخطأ كثيرون. وما زال يخطئ آخرون، ولولا مشيئة الله وتصميم المبدعين وإيمانهم برسالاتهم، ونداء الفطرة في قلوبهم لحرمت مجتمعاتهم من ابتكارات كثيرة واختراعات جليلة، وكلمات ومواقف خلدها التاريخ تجسيدا للإبداع البشري والتصميم والتفاني.


إن إنسان عصرنا تتم قولبته في مجتمعه بوسائل شتى تجعله غير قادر على إدراك أنه أصبح مبرمجاً دون أن يدري، كما تجعله يفقد قدرته على التمييز بين ما يفعل إن كان إيمانا وقناعة بما يعتقده أو برمجة وقولبة لا حيلة له معها..


هذه البرمجة والقولبة هي أخطر أسر لإرادة الإنسان الذي كرمه الله ونفخ فيه من روحه، وهي أخبث سجن لهذا المكرم الذي حرَّره الله من عبادة غيره، إذ باكتمال العبودية لله يكتمل تحرر الإنسان من عبادة غير الله، فتصبح الروح حرة طليقة تسبح في ملكوت الله، لا تحدها إلا حدود الله، وتدور في فلك الله لا تخاف إلا منه سبحانه، وتحرر هواها فلا تحب إلا فيه ولا تبغض إلا فيه، وتعرف رسالتها فلا تُباع ولا تُشترى ولا تخون أبداً، وتفهم معنى الاستخلاف أنه عمارة الأرض كما يحبها الله أن تعمر، وتدرك أن الدنيا مزرعة الآخرة، وأنه لا بد للإنسان أن يخلص عبادته لربه، ويرفض القولبة في شتى صورها، ويعبد الله عبادة كاملة خالصة بخضوع طوعي كامل له، كما يعبده كل ما في السماوات والأرض، ويدرك أن هذه القولبة والبرمجة هي أخطر سجن له، السجن الذي يحول بين أن يصبح جزءاً من الكون فيسبَحُ اختياراً مع باقي خلق الله الذي سبّح بدوره لله قهراً لا خيار له فيه.
إن من حسن حظ مجتمعات هؤلاء العظماء أنهم استمعوا إلى قلوبهم ولبوا نداء الفطرة ولم يصبحوا أداة لتحقيق أحلام آبائهم. وهكذا يجب أن يكون أبناؤنا، ويجب أن يسلم لهم الآباء بذلك.
إن الله خلق كل نفس وآتاها من الملكات والقدرات ما لا يعلم مداه ولا منتهاه إلا خالق هذه الأنفس الذي سوّاها، ثم من يحمل هذه القدرات في قلبه الذي لا يفارقه إلى سواها، فكيف للآباء أن يفترضوا أنهم أعلم من أبنائهم بملكاتهم وقدراتهم؟ وهل يحلم لك غيرك في سباتك؟ أو هل ينبض قلبك في دم غيرك أثناء يقظتك؟


وبدلاً من انتظار الآباء أبناءهم يكبرون ثم يتدخلون في اختياراتهم، بدلاً من ذلك فإن على الآباء أن يمهدوا الطريق لأبنائهم لاستكشاف الملكات وتنمية المهارات والقدرات وكافة فنون الإبداع، وذلك يبدأ مبكراً جداً، فالدراسات العلمية تشير إلى أن مجموعة التفاعلات والمشاعر التي يعايشها الطفل في أيامه الأولى وسنواته الأولى تؤسس وتؤصل لديه مجموعة دروس عاطفية تبقى مدى حياته كمرجعية قوية وثابتة وراسخة للتعامل مع محيطه والبشر من حوله، وعلى الرغم من أهميتها وقوة تأثيرها ومدى تأصلها، إلا أنه من الصعب على صاحبها أن يفهمها أو يحللها، إذ إنها قد خزنت في الدماغ في مرحلة مبكرة من العمر بطريقة بدائية، عندما كان لا يستطيع الكلام أو التحليل..


إن المجتمعات التي لم تحظ بنصيب كاف من العلم ينظر فيها إلى الطفل نظرة الجاهل الذي لا يدرك ولا يفقه، علماً بأن الطفل يفهم مئات الكلمات قبل أن يصل إلى الخامسة من عمره. وإن كان لا يستطيع استعمال إلا جزء بسيط منها.


في أميركا وكما في دول كثيرة أخرى أماكن مخصصة وبرامج محددة للأطفال بين عمر الستة أشهر والخمس سنوات، وغالباً ما تتضمن هذه الأماكن قاعات وصالات متعددة الأغراض وتحوي مئات الألعاب والأنشطة الجماعية والفردية المدروسة، ولكل لعبة أو نشاط غرض وهدف في تنمية حواس الطفل وقدراته العقلية والنفسية والاجتماعية، عن طريق التفاعل واللعب الجماعي مع أطفالٍ في عمر مشابه أو مع والديه.


وفي مشاركة الوالدين للطفل فوائد جمة تعين على تعميق العلاقة النفسية بين الطفل ووالديه، وتعميق فهم الوالدين للطفل وطبيعته وكما ذكرنا سابقاً فإن مجموعة هذه التفاعلات والمشاعر التي يعايشها الطفل في سنواته الخمس الأولى مع والديه تؤصل لديه مجموعة دروس عاطفية وعقلية تبقى مدى الحياة، كمرجعية قوية وثابتة وراسخة للتعامل مع محيطه ووالديه والبشر من حوله، وتكمن أهميتها وقوة تأثيرها ومدى تأصلها في أنها خُزِّنت في الدماغ في مرحلة مبكرة من العُمر بطريقة بدائية، عندما كان الطفل لا يستطيع التحليل، وبذلك تكون مجموعة هذه الدروس والتفاعلات بمثابة النقش على الحجر.
ومثال لأهم الدروس التي تَهدف إليها مثل هذه البرامج الترفيهية الهادفة هو زرع روح العمل الجماعي والمشاركة بين الأطفال وفهم دور الفرد كجزء من منظومة اجتماعية متكاملة.
أيها الآباء والمربون الأفاضل، لا تقتلوا الإبداع في أبنائكم ظنّا منكم أنكم أعلم منهم بملكاتهم وقدراتهم ونداء أفئدتهم وقلوبهم.


ولا تجعلوا أبناءكم وسيلة لتحقيق أحلامكم التي حالت الظروف بينكم وبين تحقيقها، فلكل منكم ملكاته، ولكل منكم رسالته. وإن فعلتم فقد يكون الثمن باهظاً وغالياً يدفعه أبناؤكم وتدفعه مجتمعاتكم كل يوم، وأنتم لا تشعرون وصدق الله العظيم “ولكل وجهة هو موليها فاستبقوا الخيرات“.

 

 

 

 لقراءة المقالة من صحيفة الوطن الرجاء الضغظ على الرابط أدناه :

http://www.alwatan.com.sa/Articles/Detail.aspx?ArticleId=17493