لكي تحرر ذاتك.. منك

 

أُهدي إليّ قبل بضعة أسابيع كتاب قيّم من صديق مُربٍّ يعلم أي الكتب يهدي ولمن يهديها، فجزى الله مهدي هذا الكتاب عني خير الجزاء.


عنوان الكتاب “حرّر ذاتك.. منك” لمؤلفه عماد سامي سلمان، كتاب غني بالأفكار التي تحرضك على نفسك لأنه يحملك مسؤولية حياتك كاملة ويثبت لك أنك أنت سجان نفسك وأنت محررها إن شئت.

ولا يسعني في الحيز الضيق أن ألخّص الكتاب، ولكني سأكتفي بجزئية واحدة منه وهي كيف يُسجن الإبداع الذي في كل إنسان وكيف يُحرر.


نبدأ أولا بتوضيح معلومة بديهية مفادها أن منبع كل إبداع هو التحرر الداخلي وليس التبعية لنماذج تصرف الآخرين، فكل واحد منا حباه الله مَلكة خاصة لا يعرفها إلا الإنسان نفسه إذا استمع إلى صوته الداخلي، ولكن الأغلبية العظمى من الناس يعيشون ويموتون دون أن يمنحوا أنفسهم الفرصة لكي يستمعوا لصوتهم الداخلي.


الإبداع يكمن في اكتشاف الهويةِ والمَلَكَة التي وهبها الله لكل واحد منا وخوض تجربة الحياة معها وبها بحرية كاملة، أما التبعيّة (لنماذج) تصرف الآخرين وما يقومون به لنَتَعَلَّم منهم ونَسِير على دربهم فمعنى ذلك أن ندور في أفلاكهم طوال الوقت ونُحرَم بذلك السَّفر في أفلاكنا واكتشاف العالَم الواسع الرَّحب الذي في داخل كل واحد منَّا والذي فيه نفخة الرحمن ويصفه الحديث الشريف “من عَرف نفسه عَرف ربه” والذي وصفه الإمام الغزالي بقوله: “واعلم أن مفتاح معرفة الله سبحانه هو معرفة النفس“.


ولكن كيف لنا أن نعرِف أنفسنا وكلّ ما حولنا ومن أول يومٍ في حياتنا يطالبنا أن نكون نسخة “طبق الأصل” من غيرنا كتلك التي نضعها في جهاز التصوير، فإذا لم تخرج طبق الأصل رفضناها وتخلَّصنا منها.


الإبداع يُقتل بطرق عديدة تعمل في محيط الإنسان منذ ولادته، ولكن قد تختلف حدة تأثيرها من مجتمع لآخر. وسأذكر في مقالي هذا ثلاثة وسائل ذكرها الكتاب يُقتل فيها الإبداع .. تندرج الأولى والثانية تحت ما يسمَّى بالبرمجة الاجتماعية أو صناعة الإنسان “النموذجي”، وقد قدّم المؤلّف لتقريب المعنى مثالاً للأولى برقصة الدب وللثانية بالفيل المطيع، أما الوسيلة الثالثة فأسماها التماهي مع العادات.


ولنبدأ برقصة الدب، هل تعرفون كيف يجعل مدربو السيرك الدب يرقص في استعراضات السيرك؟ إنهم يضعون الدب على أرض حديدية ويُسمِعونَه نغمةً موسيقيةً، ويقوم المدرب في الوقت نفسه بتسخين الأرض الحديدية، وعندها يبدأ الدب برفع رجله اليمنى بفعل حرارة الأرض ويبقى واقفاً على رجله اليسرى إلى أن تتعب من تحمل الحرارة فيبدّلها باليمنى.

 

 وهكذا دواليك.. يرفع الدّب قدمه اليمنى وينزل اليسرى، ويرفع اليسرى وينزل اليمنى.. كل ذلك بالتّزامن مع إسماعه لحن الاستعراض. ويكرّر المدرّب هذا التمرين مرّات عديدة، وحين يبدأ العرض تُعزَف المعزوفة المطلوبة فيظنّ الدب أن الأرض ساخنة فيقوم تلقائياً بالرقص” على المعزوفة التي تعوّد سماعها عندما تسخن الأرض تحته. وهكذا نتعلم نحن البشر كذلك الرقص على إيقاعات مجتمعاتنا.. نرقص دائماً كما يريدوننا أن نرقص في عروض السيرك الاجتماعية.. نرقص كما يرقص الدّب ونحن لا ندري ما إذا كنا نرقص فرحاً وطرباً أو أننا نرقص برمجةً، بل ولا ندري أنحنُ الذين نرقص أم أن حرارةَ خوفنا المبرمج هي التي ترقص بدلاً منّا.
أما الطريقة الثانية في صناعة الإنسان “النموذجي” في البرمجة الاجتماعية فقد قدّم المؤلف لها لتقريب المعنى مثلاً بالفيل المطيع.. أتعرفون كيف يُطوَّع فيل السيرك لكي يصبح عاجزاً تماماً عن “التمرد”؟ يعمد مدربو السيرك ربط فيل السّيرك منذ صغره بربطة قوية شديدة بشجرة ضخمة قوية بواسطة حبل غليظ ومتين لكي لا يستطيع الحراك.. يحاول الفيل ويحاول مرات عديدة للانفكاك من الحبل ولكنه يفشل المرة تلو الأخرى، فالحبل متين والشجرة ضخمة وهو صغير عاجز.. وهو فعلاً لا يقدر على قلع الشجرة. وتمر الأيام والشهور والسنون.. وعندما يكبر هذا الفيل ويصبح بحكم طبيعته وحجمه الجبار وقوته الهائلة قادراً على اقتلاع الشجرة من جذورها مهما كانت كبيرة وقادراً على قطع الحبل بسهولة مهما كان غليظاً، لا يستطيع التحرّر من قيده حتى لو ربط بحبل رقيق أو بعمود هش.. أتعرفون كيف يحدث ذلك؟ الجواب سهل.. “لقد زُرِعَت مراراً وتكراراً وتأصلت في لاوعي الفيل فكرة عجزه عن التحرر من قيده منذ صغره، وعندما كبر أصبح هذا العجز جزءاً من نظام معتقداته التي لا تقبل التشكيك، وبذلك يصبح المدربون في اطمئنان كامل أن فيلاً بهذه القوة والضخامة قد أصبح عاجزاً عن (التّمرد) وأمكن بسهولةٍ ويسرٍ ضبطه والسيطرة عليه.


وبنفس هذه الطريقة تتم برمجتنا من أجل “ضبطنا” وتأطيرنا اجتماعياً، فيتم إفهامنا بأنّنا لسنا أكبر من النّماذج الاجتماعية (المفصَّلة لنا سلفاً) بناءً على قياس مجتمعاتنا لا على قياسنا نحن لأنفسنا، ومن أجل “تربيتنا وتعليمنا” بأن أقصى مدى فكري يمكن أن نصل إليه، هو حدود المدى الفكري النّموذجي” الذي تربينا عليه، وبأن أبعد وأقصى مدى لإبداعاتنا لا يتعدى حدود التقليد “للنموذج“.


وتتم هذه البرمجة من خلال وسائل عديدة مثل الإيحاء والإعلام والثّواب والعقاب والتقليد والتعوّد والتكرار.. وبذلك نصبح نحن نموذجهم المطلوب المقبول بدلاً من أن نكون “نحن .. كما يجب أن نكون نحن“.


أما الوسيلة الثالثة فهي التماهي مع العادات (التماهي: Co-dependence) وهو أحد الأمراض النّفسية التي تؤدي إلى إهدار وتجاهل الذات الحقيقية، وهناك أنواع عديدة من التّماهي، مثل (التّماهي مع الآخرين) وسببه الرئيسي هو المبالغة في التّركيز على حاجيات الآخرين وقضاياهم وتصرّفاتهم إلى الحد الذي ينسينا ذاتنا الحقيقية.


وأسوأ أنواع التماهي هو التماهي مع العادات، والذي يجعل العادات تتحول إلى سجون لنا.

وهذا النوع من السّجون يقيّدنا من الدّاخل وليس من الخارج، ولذلك فهو أخطر السّجون كون قصبات الحبس لا تُرَى، وبهذه الطريقة اللطيفة تستعبِدُنا عاداتنا فنُصبِح أسراها دون أن نراها.


إنني أوافق الكاتب في قوله بأن جميع الخيانات خطيرة ولكن أخطر أنواع الخيانات هي خيانة الذات.. خيانة طبيعتنا الإنسانية الفِطريَّة بداخلنا.. الإنسانيّة التي خلقها الله متحرِّرَة من أي استلاب فكري أو عاطفي أو اجتماعي.. بمعنَى أن نكون” ملتزمين” أمام الآخرين بإخلاصٍ مزيَّف ولكننا خائنون لأنفسنا ولذواتنا خيانةً حقيقيةً.. فكأنها تموت حريتنا لترثها عاداتنا.


إن أي مجتمع لن يظهر فيه النّبوغ والإبداع حتى يتحرّر إنسان مجتمعه.. ولن يتحرر هذا الإنسان حتى يستطيع أن يملِكَ حقّ عدم الرقص على لحن ونغمات إيقاعات مجتمعه، فحين تذهب ضوضاء هذه الإيقاعات عندها فقط يستطيع أن يسمَعَ صوتَه الدَّاخلي. ولن يتحرر إنسان مجتمعنا حتّى يكف مدربوه عن زرع فكرة العجز فيه منذ صغره كما يفعل المدربون ليجعلوا الفيل مطيعاً.. ولن يتحرّر إنسان مجتمعنا حتى يملك المعرفة والحق والشجاعة لأن يتحرّر من سجن عادات المجتمع التي لا يُعدُّ الخروج عليها مخالفاً للدين والشرع والأخلاق.


وحتى نحرّر إنسان مجتمعاتنا مما ذكرناه فسيظل الإبداع بعيداً عن إنسان مجتمعاتنا.. وستظل تُرتكب أخطر أنواع الخيانات ألا وهي خيانة الذات.. وسيظل الإنسان يعاني من أصعب أنواع الغربة.. ألا وهي الغربة عن الذات.

 

  لقراءة المقالة من صحيفة الوطن الرجاء الضغظ على الرابط أدناه :

http://alwatan.com.sa/Articles/Detail.aspx?ArticleID=11038