ماذا قال لي “فوسفين”؟

في سبتمبر 2008 كان أول لقاء لي وجهاً لوجه معه، وأقل ما يقال عن ذلك اللقاء إنه كان مأساوياً.. أبوان يفقدان أغلى ما يملكان.. طفليهما “مسرة وميسرة” في غضون ساعات، عشنا معهما المأساة دقيقة بدقيقة.. تفاعلنا معهما.. ورويت آنذاك تلك القصة على لسان والدهما الفاضل وسميناها “من الذي قتل مسرة وميسرة؟”، وأوضحت في الكتيب الذي طبعنا منه مليون نسخة ما هو “الفوسفين”، والذي هو ببساطة وفي جمل معدودات مادة سامة كانت تستخدم في الحرب العالمية الثانية في الأنفاق، وهي مادة فعالة في قتل كل شيء، فاستخدمتها بعض الدول في صوامع الغلال والسفن لقتل الجرذان وكل شيء يمشي على الأرض، سمحت به السعودية للاستعمال في الزراعة في صوامع الغلال.
وبالرغم من القوانين الصارمة من حظر استعماله في المناطق الآهلة بالسكان إلا أن الجشع والفساد وغياب الرقابة أدى إلى انتشاره في الأسواق.

 

استمرت المأساة بعد مسرة وميسرة، بالرغم من قرار مجلس الوزراء الذي يحظر استعماله في غير ما رخصت له هذه المادة، واستمرت الوفيات الواحدة تلو الأخرى على مدى ثلاثة أعوام.
في نهاية هذه الأعوام الثلاثة تقابلت مرة أخرى مع المجرم وجهاً لوجه.. والضحية هذه المرة “رازان” وحمى الله أخاها ريان، فقد قدّر الله أن تقرأ والدته كتيب (من الذي قتل مسرة وميسرة؟) أثناء ولادته في المركز الطبي الدولي فأخرجت الأطفال من البيت سريعاً قبل أن يستنشق ريان جرعة أكبر ويلحق بأخته – رحمها الله -.

اقترح علينا آباء الضحايا أن نفعل شيئاً، فاجتمعنا مع الأهالي المكلومين وقررنا أن ننتج فيلماً وثائقياً لعلنا نصل به إلى المجتمع والمسؤولين كقضية رأي عام، وتم ذلك وخرج الفيلم بتضافر القائمين عليه وبإخراج الشاب الموفق عبدالرحمن صندقجي. خلال يوم واحد بلغ عدد المشاهدين مليون مشاهد، خلال يومين مليونين، بعد ثلاثة أيام 3 ملايين ونصف المليون، وحتى لحظة كتابة المقال تعدينا 4 ملايين مشاهد.
في خلال ساعات تحرك وزير التجارة، أرسل تغريدة يشكر القائمين على الفيلم الوثائقي وبدأ حملة تفتيش مكثفة، وتوالت التغطيات الصحفية والتلفازية والمقابلات.. تحرك كل شيء بعد موت أعوام وأعوام.
إن التجاوب السريع المذهل الهائل وغير المتوقع لفيلم فوسفين كشف لنا خفايا عميقة في ضمير وفكر المواطن في بلادنا الغالية.. فماذا قال لي “الفوسفين”؟

 

قال لي ما قاله القرآن قبل أربعة عشر قرناً، قال تعالى: “هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا” فلو أراد الله بكلمة “الاستعمار” عمار الأرض المجرد من عمار الإنسان، لقال سبحانه (ليستعمرها بكم) أي يستعمر الأرض ويعمرها ويبنيها بكم، ولكن قال سبحانه (ليستعمركم فيها) أي أن العمار الحقيقي المطلوب هو عمار الإنسان.. عمار البشر، لأن هذا العمار هو الذي سينتقل به الإنسان إلى المرحلة الثانية ما بعد الحياة إلى الحياة الأزلية.. الحياة الحقيقية. أما عمار الأرض وهو الحجر، فما هو إلا عمار للحجر لغاية عمار البشر، أي أنه مجرد أداة ووسيلة لأنها زائلة “وَإِنَّا لَجَاعِلُونَ مَا عَلَيْهَا صَعِيدًا جُرُزًا”. وما رأينا من تجاوب عجيب لفيلم (فوسفين) هو انعكاس لصيحة الإنسان، الذي في كل مواطن رأى في هذا العمل عماراً حقيقياً له كإنسان.. دفاعاً عن حق إنسان.. حماية لإنسان.. توعية وترشيداً وتثقيفاً واستثماراً في عقل وفكر الإنسان.. عمار البشر لا عمار الحجر المجرد من بناء البشر.

 

قال لي “الفوسفين” ما قاله مالك بن نبي – رحمه الله – قبل عشرات السنين بأن الإنسان والمجتمع، إما أن يعيش في عالم الفكرة أو عالم المادة، والمجتمعات التي ما زالت تعيش في عالم المادة، جُل استثماراتها تكون في المرئي من المادة (بناء الحجر) وأما بناء عقل الإنسان وروحه، أي الاستثمار في التوعية والترشيد فهو أقل، وميزانياتها تجد صعوبة تبرير أرقام كبيرة في عالم غير المرئي، من جسد وعقل وروح الإنسان، فهو يعيش عالم المادة لا عالم الفكرة، بالرغم من أن الإحصائيات الاقتصادية والأرقام تثبت بما لا يقبل الشك أن أفضل العوائد هي في الاستثمار في البشر لا في الحجر، وأن الوقاية خير من العلاج.
قال لي “الفوسفين” ما قاله الكاتب الأديب مصطفى صادق الرافعي قبل مئة عام حين قال: مشهد واحد تقلبه الفتاة ويقلبه الفتى في مخيلته مئات المرات أوقع تأثيراً من مئات الكتب ومئات المحاضرات. حقاً إن تأثير الكلمة المسموعة المشاهدة أكبر بكثير من تأثير الكلمة المقروءة، خاصة في أمة سميت أمة اقرأ، لكنها ما عادت تقرأ، فمليون نسخة لم تؤد ولو جزءاً بسيطا من فعل فيلم وثائقي واحد.
قال لي “الفوسفين” إن مجتمعنا متعطش للمعرفة والمعلومة ولمزاولة روح الوطنية الحقيقية بتوطين الخير واستئصال الشر، وتفاعله الكبير مع “الفوسفين” يعكس روح هذا الحرص.

 

قال لي “الفوسفين” إننا دخلنا حقبة جديدة من الإعلام التثقيفي الهادف الحر الذي يستطيع أن يصلح الكثير والكثير ويسخر لخدمة الإنسان إن أحسنا استخدامه وبه نحول مآسي الإنسان البسيط المنكوب إلى قضايا رأي عام تجند لإحداث التغيير، الذي به نصلح أنفسنا ومجتمعاتنا إن شاء الله.
رسالتي بعد كل هذا.. هل سيتغير شيء؟ أم أننا سنعود لنستفيق على مآسٍ جديدة تفجعنا؟ وأنهي بصرخة أسى كتبتها في 2008 بعد فاجعة مسرة وميسرة، عسى أن تجد صداها لدى مسؤول أو مشرّع يأمر بسحب هذا السم الزعاف من أيد من أمن العقوبة.. فأساء الأدب: “هل سيُغلق ملف قضية مسرّة وميسرة ببساطة؟ هل سيتكرر مثل هذه الحادث الأليم وتزهق أرواح بريئة؟
إلى متى سيستمر الجهل والجشع وغياب الرقابة يستشري في مجتمعنا؟
من الجاني؟ ومن المسؤول؟ ومن يستحق أن يُعاقب؟
إلى كل من أرد أن يعزي والد ووالدة مسرّة وميسرة.. أقول لهم عزوهما بأن تحيوا لهما سيرة مسرّة وميسرة..
لتصبح “مسرّة” رمزاً لتيسير أمور كثيرة عُسِّرت على الناس ولم تزل إلى اليوم معطّلة..
وليصبح “ميسرة” رمزاً لإدخال السرور في نفوس اغتالتها الهموم فأصبحت بها مكدّرة..
ولنعيد للإنسان في مجتمعنا قيمته المهدرة..
ولُنفعّل على أرض الواقع قول الله تعالى “من قتل نفساً بغير نفس أو فساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعاً”.
واليوم أوجه خطابي للمسؤولين وأسألهم إلى متى؟ إلى متى؟ إلى متى؟

 

لو تكررت مثل هذه المأساة في دول متقدمة لما أغلق الملف بأقل من معاقبة مسؤولين كبار أو استقالة أكبر الرموز الموجودة في الوزارت.

 

فهل نتوقع أن نرى مثل هذا في بلادنا الغالية أم أن (مسرّة وميسرة) ما هما إلا حلقة من مسلسل هزلي مبكٍ تعودنا عليه فتبلدّت أحاسيسنا له ولمثله من المآسي!

 

 

 لقراءة المقالة من صحيفة الوطن الرجاء الضغظ على الرابط أدناه :

http://www.alwatan.com.sa/Articles/Detail.aspx?ArticleId=17493