مقال قد ينقذ حياة

فجعت عائلة بفقد أم وإحدى بناتها الأسبوع الفائت في جدة بسبب استنشاق غاز سام، وظل الأب يصارع مع ابنتيه الأخريين أياماً حتى كتب الله لهما السلامة. وقد عثرت وحدة التدخل في حوادث المواد الخطرة بالدفاع المدني على المادة السامة التي هي عبارة عن مبيد حشري سبق وأن تكررت مآسيه وذاع صيته لوقوع أبرياء ضحايا له.

 

وأصبحت الواقعة الجديدة حديث المجتمع ومحور أخبار شبكات التواصل الاجتماعي حتى وقتنا، وغلب الشعور بالإحباط على أكثر المتابعين، ليس للمُصاب الأليم نفسه الذي هو بقدر الله أولاً وأخيراً، بقدر ما هو لتكرار الأمر بنفس الأسلوب وللعدد من الحالات على امتداد سنوات، مما يؤكد وجود تقصير لم يُتدارك رغم أنه يتعلق بالنفس البشرية التي هي أغلى ما على الأرض.

 

في حادثة وقعت قبل عامين، وقعت مأساة رزان وريان، التي كان بها عبرة ودرس، قدّر الله به حفظ أكثر من روح كادت أن تلقى نفس المصير، وهو الدرس الذي نريد أن نستحضره اليوم أكثر من أي وقت، حفاظاً على أرواح أبنائنا وأحبائنا. فبينما والدتها في المستشفى شاء الله لها أن تقرأ قصة “مسرة وميسرة” (ضحيتان لاستنشاق الغاز السام) في الكتيبات الموجودة في كل أنحاء المستشفى.

 

وتمر الأيام وتكبر رزان ليصبح عمرها عامين وريان أربعة أعوام.. طفلان سعيدان في أتم صحة وعافية لوالدين في مقتبل عمرهما يملكان قسطا وافرا من الثقافة والخلق الكريم. وفي أحد الأيام يدخل الوالد بيته ويشم رائحة غريبة ولكنه ظن أنها رائحة طبخ أو ما شابه ذلك، وبعد ساعات بدأت بعض أعراض المرض تظهر عند الطفلين من غثيان وقيء فحملاهما إلى الطوارئ وبالطبع لم يشك أحد في بادئ الأمر، حيث إن أعراض التسمم بهذا المبيد الحشري مشابهة للتسمم الغذائي الذي يُرى كل يوم من غثيان وقيء وضعف عام، مما أدى إلى إرسالهما إلى البيت مع طلب مراقبتهما وإحضارهما مرة أخرى في حالة استمرار الأعراض.

 

واستمرت الحال قرابة يوم كامل، ولكن عندما بدأت الأعراض تظهر على أم الأطفال بما فيها ضيق التنفس تذكرت الأم بلطف الله وكرمه قصة مسرة وميسرة، التي قرأتها قبل أعوام وتذكرت أنها رأت الجيران يخرجون أثاثهم من الشقة خلال أيام الأسبوع فاتصلت فوراً بزوجها وطلبت منه أن يسأل جارهم إذا استخدم أو رش أي مبيد في منزله، وبالفعل كان الذي خشيت منه. وفي خلال ساعة كانت العائلة في العناية المركزة تحت مراقبة دقيقة وبتنبيه الأم والأب للجار توجه هو كذلك للمستشفى، حيث إن ابنته بدت عليها أعراض التسمم مثلها مثل ريان ورزان، فالجار كان كذلك ضحية الذي باعه هذا المنتج الممنوع.

 

وبما أنه لا يوجد ترياق أو عقار خاص لعلاج التسمم بهذا المبيد وإنما يعتمد التعافي من آثاره على قدرة الجسم على طرده منه، لذلك يتأثر الأطفال بشكل أكبر كون الأجهزة الحيوية لديهم غير مكتملة النضوج، وبذلك وللأسف الشديد لم تستطع رزان البالغة من العمر سنتين مقاومة آثار السموم مما أدى إلى وفاتها، ولكن الله لطف بأخيها ريان وأمهما.

 

انتباه والدة رزان وتذكرها لقصة مسرة وميسرة كان سببا بتقدير الله لنجاة ريان ونجاتها بعد أن لقيت رزان ربها، وقد فضلت في هذا المقال أن أركز على سرد الحلول على المستوى الشخصي قبل الحديث عن مسؤولية الجهات المعنية، وهو ما سيكون له أثر كبير في حال انتشار التوعية وتدارك الأمور في وقتها قبل فوات الأوان.

 

لو عرف كل منا ما هي هذه الأقراص وماذا يفعل في حال الاشتباه، لاستطعنا بإذن الله تجنب الكثير من المآسي المتكررة. إن مبيد فوسفيد الألمنيوم هو أحد المبيدات الحشرية السامة، التي يمنع استخدامها في المنازل نظرا لخطورته، وإنما تستخدم فقط في الأماكن غير الآهلة بالسكان كصوامع الغلال، فعندما تتعرض أقراص “فوسفيد الألمنيوم” للجو تتفاعل مع الرطوبة وتطلق غاز الفوسفين السام الذي له رائحة نفاذة أشبه برائحة السمك الفاسد، ويطلق القرص الواحد كمية من غاز الفوسفين تكفي لقتل طفل صغير.

 

وفي حالة الاشتباه بالتسمم بوجود رائحة غريبة في المنزل أو ظهور أعراض الغثيان والقيء والضعف العام، فعلى من يشتبه أن يسأل جيرانه جميعاً إن استخدموا مبيداً حشرياً، وفي حال تأكيد ذلك، فإن عليه أن يبادر فوراً بإخلاء منزله من كل أفراد عائلته وأن يطلب من الجيران أن يفعلوا الشيء نفسه مع إبلاغ الدفاع المدني فوراً.

 

والخطوة التالية والفورية أيضاً هي التوجه للمستشفى، مع ضرورة التأكيد على الأطباء بذكر أمر المبيد الحشري واشتباه التسمم بغاز الفوسفين لتدارك أمر تشابه أعراض هذا التسمم مع التسمم الغذائي العادي، حيث إن المستشفى قد يتعامل مع الأمر على أنه تسمم غذائي عادي من خلال الأعراض.

 

ومع تنامي خطورة الأمر فإني أطرح مبادرة بسيطة يمكن أن تكون حلاً بشكل كبير. لماذا لا يبعث كل شخص لجيرانه يطلب منهم إن أراد أحدهم أن يضع في منزله مبيداً أن يخبر الجيران جميعاً، أو أن يبلغ الحارس ويتولى الحارس إخبار الجميع، فيتحمل هذا الإنسان بذلك مسؤوليته تجاه جيرانه، وقبلها تجاه أفراد عائلته.

 

لقد سئمنا من تكرار المناشدة وتوجيه خطابنا للمسؤولين، وجاء الوقت الذي يتوجب فيه على كل منا أن يتحمل مسؤوليته عن نفسه وعن أفراد عائلته، وأيضاً عن جيرانه بنشر الوعي عسى الله أن يجعله سبباً في إنقاذ روح من براثن الإهمال “ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعاً”.

 

إننا اليوم وبعد خمسة أعوام كاملة من مأساتنا الأولى (مسرة وميسرة)، يبدو أن أسئلتنا التي ترددت كثيراً لم تجد جواباً شافياً إلى الآن، فهل نتفاءل قليلاً ونتوقع اليوم أن نرى سلوكاً جديداً أم أن (مسرة وميسرة) و(رزان) وعوائل أخرى ما هم إلا حلقة من مسلسل هزلي مبكٍ تعودنا عليه فتبلدت أحاسيسنا له ولمثله من المآسي.

 

كنت أنهيت قصة “من الذي قتل مسرة وميسرة” عام 2008، بتساؤلات لا أجد لها إجابة إلى اليوم: هل سيغلق ملف قضية مسرة وميسرة ببساطة؟ هل سيتكرر مثل هذا الحادث الأليم وتزهق أرواح بريئة؟ إلى متى سيستمر الجهل والجشع وغياب الرقابة يستشري في مجتمعنا؟ من الجاني ومن المسؤول ومن يستحق أن يعاقب؟

 

إلى كل من أراد أن يعزي والد ووالدة مسرة وميسرة.. أقول لهم عزوهما بأن تحيوا لهما سيرة مسرة وميسرة.. لتصبح مسرة رمزاً لتيسير أمور كثيرة عسرت على الناس ولم تزل إلى اليوم معطلة.. وليصبح ميسرة رمزا لإدخال السرور في نفوس اغتالتها الهموم فأصبحت بها مكدرة، ولنعيد للإنسان في مجتمعنا قيمته المهدرة.. ولنفعّل على أرض الواقع قول الله – سبحانه وتعالى – “من قتل نفسا بغير نفس أو فساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعا ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعاً”.

 

أما للمسؤولين فأسألهم إلى متى؟ إلى متى؟ إلى متى؟ لو تكررت مثل هذه المأساة في دول متقدمة لما أغلق الملف بأقل من معاقبة مسؤولين كبار.

 

 

 

 لقراءة المقالة من صحيفة الوطن الرجاء الضغظ على الرابط أدناه :

http://www.alwatan.com.sa/Articles/Detail.aspx?ArticleId=17493