مقولبون مبرمجون

خلق الله السماوات والأرض وما فيهن بقدرته، وجبل كل شيء فيها عدا الإنسان على عبادته، فأتته المخلوقات طائعة لسلطان قهره، قال عز من قائل: “ثم استوى إلى السماء وهي دخان فقال لها وللأرض ائتيا طوعا أو كرها قالتا أتينا طائعين” “فصلت:11”.

 

وكرَّم الله الإنسان بأن جعل عبادته اختيارية لا قهرية: “وهديناه النجدين” “البلد:11″، وأمر الملائكة أن يسجدوا لآدم، إذ استحق بهذا الاختيار أن يكون خليفته في الأرض: “وإِذ قَال ربّك للْملائكة إِنِّي جاعل في الأَرضِ خليفة”، فلا عجب أن يضع الله للإنسان شرعة ومنهاجا، إن عاش بهما انسجم مع الكون من حوله، وصارت حياته كلها عندئذ عبادة وتسبيحا.

 

وعندما يدور الإنسان مع الكون في فلك نهج الله كما تدور السماوات والأرض وما فيهن، وعندما يُسبِّح مع باقي الخلق فإنما يسبَحُ معها في تناسق وانسجام، وبذلك يكون قد أدرك المفهوم الصحيح لوظيفة الإنسان على الأرض كخليفة، إنه تسبيح تُشتَقُّ من معانيه هذه السباحة المختارة أو السبح “إن لك في النهار سبحا طويلا”، فيسجد مع النجم والشجر ويطمئنان به وله “والنجم والشجر يسجدان”، ويقيم العدل الذي قامت به السماوات فتعتدل كفة الميزان معه “والسماء رفعها ووضع الميزان”، ويخاف من الظلم والطغيان، فتستقيم الحياة وينتفي الخسران به، “أَلا تطغوا فِي الْميزان، وأَقيموا الْوزن بالْقسط ولا تُخسروا الْميزان” [الرحمن: 8 – 9].

 

وفي قدرة الإنسان على الاختيار يكمن الاختبار، ويعمل الشيطان عمله ليلبس على الإنسان خياراته، فيُلبس ما ليس من عند الله لباس الحق والصواب ليغرر به بني آدم.

 

والشيطان أذكى وأدهى من أن يأتي مسلما يلتزم بالشعائر فيأمره أن يتركها أو يقصّر فيها، لكنه يعمل على إبطال عمل هذه الشعائر في نفسه وفي الحياة، ويجتهد في تهميشها وتحييدها.

 

فبدلا من أن تكون الشعائر في جملتها دورات تدريبية، تعمل عملها في النفس الإنسانية لتتغير وليغير الإنسان بها العالم، إذا بها تتحول إلى وسيلة تخدير وتسكين، وبدلا من أن يسعى المسلم “خليفة الله في الأرض” إلى تغيير واقعه البعيد عن منهج الله وتصحيحه وتوجيهه ليسبح في المفهوم الصحيح لهذا الدين، ويعمر الأرض كما يحب الله أن تُعمر ويحقق بذلك دوره وتوصيفه الوظيفي على الأرض كخليفة لله سبحانه وتعالى، إذا بشعائره في معزل عن هذا كله، بل إذا به يستسلم لواقعه الفاسد ويتعايش معه!.

 

بل ويذهب الشيطان أبعد من ذلك في تلبيسه الحق بالباطل، فيهزأ من مجتمع إسلامي ملتزم بالشعائر، فيصرفه عن مقصدها ويصرفها عن عملها العلوي فيه، فيزين له أن يوظف نصوصا مجتزأة مفصولة عن سياقها خدمة لمصالحه الدنيوية، فتنقلب بذلك “الدنيا” حقا إلى “حياة دُنيا”، أي نمط حياة بمعايير متدنية، إذ إن أي نمط حياة بقوانين وضعية هو نمط حياة متدني المعايير، مقارنة بصبغة الله وفطرته التي فطر الناس عليها، وهكذا بدلا من أن يتعامل المسلم مع الشرع ككل متكامل بروحه ومقاصده، كما فعل الشيخان أبو بكر وعمر رضي الله عنهما وأرضاهما “وفي سيرة الفاروق وطريقة تعامله مع النصوص بشموليتها لا كأجزاء متفرقة، أمثلة كثيرة.. فهو مدرسة في الحس المقاصدي”.. يستبدل المسلم هذا التعامل الشمولي الذي يرعى المقاصد العليا، بتعامل يتتبع نصوصا مجتزأة متفرقة لخدمة مصالح دنيا.

وأقرب مثال لذلك.. قصة العميان الذين طُلب منهم أن يصفوا فيلا.. فانتهى الأمر بكل مجموعة أن تمسك بجزء من هذا الفيل.. ويصف الفيل بناء على جزئه الذي أمسكه.. فمن أمسك بقدمه وصف الفيل جذعا.. ومن أمسك بزلومه وصف الفيل بأنه خرطوم.. ومن أمسك بذيله وصف الفيل حبلا.. وهلم جرا، وهكذا يمكن أن يوصف الشرع والدين جهلا إذا اختُزلت نصوصه وفصلت عن سياقها وبعدت عن مقاصدها ومبتغاها وروحها.

 

وتتم قولبة الإنسان في مجتمعه بوسائل شتى تجعله غير قادر على إدراك أنه أصبح مبرمجا دون أن يدري، كما تجعله يفقد قدرته على التمييز بين ما يفعل إن كان إيمانا وقناعة بما يعتقده أو برمجة وقولبة لا حيلة له معها..

 

وقد يكون أفضل تشبيه لهذه البرمجة هي الطريقة التي يستخدمها المدربون في استعراضات السيرك؛ كي يعلموا الدب رقصته دون أن يدري، فيوقفون الدب على أرض معدنية، ويُسمعونه الموسيقى المطلوبة للرقص عليها في استعراض السيرك، وفي نفس الوقت يقوم المدرب بتسخين الأرض من تحت الدب، فيضطر الدب إلى رفع إحدى رجليه، ثم يروح بين قدميه من شدة سخونة الأرض تحته، ويظل مكررا ذلك فيبدو راقصا، ويكون ذلك متزامنا مع إسماعه لحن الاستعراض..

 

ويكررون هذا التدريب مرات ومرات، حتى يتبرمج رقص الدب مع لحن الاستعراض حتى لو لم تسخن الأرض، وحين يبدأ العرض وتعزف الموسيقى المبرمجة يرقص الدب رقصته لا شعوريا.

 

وهكذا نحن البشر نُبرمج للرقص على إيقاعات مجتمعاتنا.. نرقص تماما كما يريدوننا أن نرقص في عروض السيرك الاجتماعي.. نرقص كما يرقص الدب ونحن لا ندري أنرقص طربا أم نرقص فرحا أم هي البرمجة؟ بل لا ندري إذا كنا نحن من نرقص أم أن الذي يرقص بدلا منا هو حرارة خوفنا “المبرمج”.

 

إن هذه البرمجة والقولبة هي أخطر أسر لإرادة الإنسان الذي كرمه الله ونفخ فيه من روحه، وهي أخبث سجن لهذا المكرم الذي حرَّره الله من عبادة غيره.. إذ باكتمال العبودية لله يكتمل تحرر الإنسان من عبادة غير الله.. فتصبح الروح حرة طليقة تسبح في ملكوت الله لا يحدها إلا حدود الله، وتدور في فلك الله لا تخاف إلا منه سبحانه، وتحرر هواها فلا تحب إلا فيه ولا تبغض إلا فيه.. وتعرف رسالتها فلا تُباع ولا تُشترى ولا تخون أبدا.. وتفهم معنى الاستخلاف أنه عمارة الأرض كما يحبها الله أن تعمر، وتدرك أن الدنيا مزرعة الآخرة، وأنه لا بد للإنسان أن يخلص عبادته لربه، ويرفض القولبة في شتى صورها، ويعبد الله عبادة كاملة خالصة بخضوع طوعي كامل له، كما يعبده كل ما في السماوات والأرض، ويدرك أن هذه القولبة والبرمجة هي أخطر سجن له، السجن الذي يحول بين أن يصبح جزءا من الكون فيسبَحُ اختيارا مع باقي خلق الله الذي سبّح بدوره لله قهرا لا خيار له فيه.

 

فالإنسان إما أن يسمو فيكون عبدا خالصا لله، فيتحرر من كل ما سواه، وإما أن يبقى في سجن القولبة أسير نمط حياة دنيا، ولن تكون هذه القوالب التي يحبس الإنسان نفسه فيها إلا صورة من صور الأوثان والأصنام، فإنها تتبدل الأشكال وتتغير الأزمان ويبقى كل ما يحول بين تمام عبادة الله وثنا أو صورة من صور الأصنام.. أصناما حجرية أو بشرية أو أنماط حياة.. كلها أصنام تحبس الإنسان عن ربه وإن تغيرت أشكالها وصورها.. يقول الله تعالى: “أفرأيت من اتخذ إلهه هواه أفأنت تكون عليه وكيلا” “الفرقان: 43”.

 

 

 

 

لقراءة المقالة من صحيفة الوطن الرجاء الضغظ على الرابط أدناه :

http://www.alwatan.com.sa/Articles/Detail.aspx?ArticleID=14000