من الذي قتل مسرة وميسرة؟

قصة واقعية موثقة الأحداث بأدق تفاصيلها تروى على لسان والد مسرة وميسرة وبقلم د. وليد أحمد فتيحي

لا أدري كيف أبدأ رواية هذه القصة المؤلمة المليئة بالمواقف والعبر، إنها قصة واقعية موثقة الأحداث بأدق تفاصيلها ليس فيها إضافة من نسج الخيال مما يجد بعض الكتاب الحاجة إليه لإضفاء شيء من الحياة على أحداث رواياتهم أو لإستثارة مشاعر قرائهم.

اليوم هو الخميس 25 من شهر رمضان المبارك لعام 1429هـ – الموافق 25 من شهر سبتمبر لعام 2008م، كنت في عيادتي عندما تلقيت مكالمة من رئيس الأطباء يخبرني أن مسرة البالغة من العمر سبعة أعوام تلفظ أنفاسها الأخيرة، وان تواجدي مع أهلها هام جداً أثناء هذه اللحظات العصيبة، فاعتذرت من باقي مرضاي في العيادة وأسرعت لغرفة العناية المركزة لأرى المشهد الذي مازال عالقاً في ذهني كلما أعدت شريط أحداث ذلك اليوم إجلالا لما رأيت. توقفت من بعد أنظر لأرى وأعتبر بذلك الوالد الذي فقد ابنه الأول ميسرة البالغ من العمر ثلاث سنوات منذ سويعات قليلة وها هو الأن يودع إبنته مسرة.

وقد رأيت ذلك اليوم المعاني العظيمة المجردة مثل تعلق القلب بالله والصبر على بلائه والرضا بقضائه تتجلى في بشر حي فتحيا به، ورأيت كيف يصبح المؤمن بهذه المعاني قرآناً يدب على الأرض. حقاً صدق من قال “إن هذا الشرع لا يحيا إلا أن يختلط بلحم ودم ويمشي على الأرض”.

إن أعظم كتب الوعظ وأبلغ وعاظ الأرض ليعجزون أن يوصلوا هذه المعاني التي كانت تُخط لوالد ميسرة ومسرة في الصحف العلوية في ذلك المكان وذلك الزمان والله يسمع ويرى، ويباهي ملائكته بعبده وهي تنظر إليه “قبضتم فلذات كبد عبدي فماذا قال عبدي؟”.

رأيت كيف يجسِّدُ إنسان واحد في موقف ما ذلك المعنى الذي يصحح الله به ألف معنى وكيف يكون المؤمن الواحد عندئذ هو فن الحياة كلها بل أستاذها ومعلمها بِصَمْتِه قبل نُطِقه وبسُكونه قبل حركته، لحن سماوي يخرج من المؤمن دون قصد أو تصنع أو تمثيل. في وقت تنصهر فيه معادن الرجال ليخرج منها جوهرها ولبها وأصلها ويتطاير كل مادون ذلك مما يخالطها من تراب الأرض وقبضة الطين وزور الدنيا .

وقفت بعيداً أنظر إلى ذلك الأب الذي فقد إبنه ميسرة قبل ساعات وهو الآن يودع ابنته مسرة، بل قل وقفت أنظر إلى تلك المدرسة، وقد تخيلته في تلك اللحظة وهو يمسك بستار غرفة العناية المركزة كأنما يمسك بأستار الكعبة. تارة ينظر إلى إبنته كأنه يناديها، وتارة ينظر للسماء كـأنما يناجي ربه، وتارة أخرى ينظر إلى الأرض كمن يذكر نفسه أننا منها خُلقنا وإليها نعود.

عجيب أمر الإنسان … بكل ضعفه يصبح مدرسة الكون عندما تعمل النفحة الربانية فيه عملها، وتقود في مثل هذا الموقف زمام أمره.

وضعت نفسي مكانه وسألتها يانفسُ ماكنتِ فاعلة في موقف مثل هذا؟… أكنتِ تجزعين أم كنتِ تصبرين؟… لا كتب الله علينا مثل هذا الإبتلاء … اللهم إن عافيتك أوسع لنا …

ثم قلت في نفسي “إن لهذا الرجل مع الله لحالاً”، فمثل هذه المواقف تشهد بالإيمان بما يعجز كل أهل الأرض أن يشهدوا به لأحد منهم ولو اجتمعوا.

انتقل ميسرة وأخته مسرة إلى ربهما وبقي والدهما المعنى الذي أحيا الله به الكثير في قلوب كل من رأوه ذلك اليوم والأيام التي تليه من الفضائل والمعاني مايعجز القلم أن يعبر عنه.

وذهب والد ميسرة ومسرة في إيمان ليُبلَّغ زوجته بفقدان نصف أبنائهما في هذه السويعات القليلة ليكون أول ما تتفوه به الأم دون جزع ولا عويل ولا صراخ وبإيمان بقضاء الله وقدره وحكمته ورحمته “لايأتي من الله إلا خير”.
قذف الله في قلبي ذلك اليوم أن دوري أكبر وأبعد من مجرد طبيب أو رئيس تنفيذي لمستشفى، وأن هناك واجباً قد أوجبه الله علي وانني مكلف بأن أشرك المجتمع بأسره بعرضي هذه القصة عليهم وبسردي تفاصيلها الدقيقة لهم، وقررت أن أغوص في أعماق القضية وأعيش مع والد ميسرة ومسرة قصته كلها منذ اللحظة التي حملهما فيها بين يديه وقد دخلا الدنيا إلى اللحظة التي حملهما فيها بين يديه وأدخلهما القبر وتركهما هناك، ووافق الأب وجلس يسرد القصة بتفاصيلها، وعشت معه ساعات لم أر فيها أو أسمع قصة والد فَقَدَ ولديه بل لأكون أنا هذا الوالد الذي فقد ابنه وابنته في ذلك اليوم.

بدأت أعيش أحداث القصة فحاله حالي وألمه ألمي ولسانه قلمي، ها أنذا أكتب قصة رحيل مسرة وميسرة كما هي بتفاصيلها الدقيقة بقلمي وكأنني أنا الذي فقدتهما تجسيداً لقول المصطفى صلى الله عليه وسلم : (لايؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه مايحب لنفسه).

فأليكم قصتي …
((لاأدري من أين أبدأ … هل أبدأ من أول صرخة من فمها أطلقتها … أو أول لحظة وقعت عيناي عليها … أو أول يوم حملتها بين يدي … أو أول ابتسامة رسمتها على خديها … أو أول خطوة مشتها تحت ناظري … أو أول يوم صحبتها لمدرستها … أو أول كلمة قرأتها على مسمعى.

ولِدت مسرة ابنتي الثانية، وسبحان الله كيف ولدت مسرة، كانت بحق مسرة لنا منذ أول يوم دخلت فيه الدنيا، فقد وصلنا إلى المستشفى لإجراء الفحص العادي ولم نتوقع الولادة، فتركت زوجتي مع والدتي ورجعت للعمل وطلبت منهم الاتصال في حالة الانتهاء من الفحوصات وكانت الساعة الثانية عشرة ظهراً، وصليت الظهر، ووجدت مكالمة على جوالي فاتصلت فقيل لي ولِدت مسرة فعدت سريعاً للمستشفى لأجد طفله سبحان الذي خلق فسوى فقد آتاها الله جمالاً، وقد نَزَعَتْ إلى أخوالها بعيونها الزرقاء وشعرها الأشقر بخلاف أختها الكبرى فريال التي آتاها الله جمالاً من نوع آخر وأسمينا هذه الطفلة الجديدة مسرة لما أدخلت في قلوبنا من الغبطة والسرور منذ يومها الأول. تحدثت مسرة في سن مبكر جداً ومازلنا نحتفظ ببعض تسجيلات الفيديو لها وهي في شهرها السابع تنطق بكلمات واضحة وتضحك ضحكات عالية كأنها طفلة كبيرة، وعندما أتمت مسرة من العمر سنة بدأت تتحدث بطلاقة ماعهدناها لدى الأطفال وكانت دائما فرحة مسرورة حتى أن جدتها كانت تقول سبحان الله الذي خلق هذه الطفلة لم أرها قط إلا مسرورة وما رأيتها يوماً حزينة.

وكانت مسرة متعلقة تعلقاً كبيراً بأختها الكبرى فريال التي تكبرها بأربع سنوات حتى سمتَّ فريال بأمها الثانية وكانت تنام دائما معها.

عندما أسترجع الذكريات الجميلة أتذكر كيف جمعت مسرة من المتناقضات مايزيد من حبنا لها فبالرغم من ذكائها الحاد واستغراب الناس لإدركها لخفايا الأمور وماوراء الأشياء إلا أنها كانت لينة العريكة سهلة الإقناع رغبة منها ألا تستعرض ذكاءها وأن لاتسبب إزعاجاً لنا، وكان لها منطق فطري يدهشنا في كثير من الأحيان، مثال ذلك عندما كانت في الثانية من عمرها وحضرت حفلة في مدرسة أختها الكبرى فريال، وقد عرضت على الأطفال تمثيلية قصة الراعي الذي كان يملك غنمات وكان الذئب يأخذ كل يوم منه غنمه حتى نصب له الراعي فخاً وأمسك به وأخذ يضربه فقامت مسرة في وسط القاعة صارخة “لاتضربوه … لاتضربوه” فأوقف عرض المسرحية واندهش الجميع من تصرفها واقتربت منها المدرسة وقالت لها لاتخافي حبيبتي أليس هذا هو الذئب الذي يأكل غنم الراعي؟ فأجابتها نعم ثم سألت مسرة المدرسة على مرأى من الناس وهل يأكل الذئب الدجاج كذلك فأجابت المدرسة “نعم” فقالت مسرة “وأنتِ مش تأكلي الدجاج كمان” فبهتت المعلمة وضحك جميع من في القاعة من تعليقها الذكي الفطن، وما هذا إلا موقف من عشرات المواقف التي تنم عن فطنة وذكاء حاد.

كانت مسرة مليئة بالحياة والنشاط لاتكاد تستقر في مكان واحد، وعندما أسترجع كل ذلك النشاط والحياة يبدو لي كأنها كانت تعلم أن أيامها على هذه الأرض معدودة فكانت تعطي كل لحظة من حياتها حقها حتى لاتضيع لحظة من حياتها فيها شيء من الحياة ولم تخرجه منها تلك الصغيرة لتحياها وتحيا بها وتُبقي لنا ذكريات مليئة بالنشاط والأخذ والعطاء. فسبحان الذي جمع في هذه الطفلة تلك المتناقضات العجيبة، فبالرغم من نشاطها غير العادي وروحها الإستكشافية وحبها للمغامرة والدعابة والضحك أو ما نسميه في العامية “بالشقاوة” في البيت، إلا أنها كانت نموذجاً في الإنضباط والسيطرة على تلك الروح المفعمة بالحياة فكانت تذهلنا بمدى سيطرتها على نفسها وتحكمها في تصرفاتها، وكانت تغار من أختها الكبرى فريال “تدلل بإسم فراولة” كيف تمسك فريال بالقرآن وتقرأ فيه ومسرة لاتقرأ بعد، وتأتي فتحمله مثل أختها فتناديها أمها أن لا تلعبي بالقرآن فكانت هذه القضية تسبب لها ضيق، وحفظت معظم السور الصغار من أختها الكبرى بالسماع قبل ان تتعلم القراءة، وأعتبرت مسرة انضمامها لأختها الكبرى في نفس المدرسة أكبر مكافأة لها.

كيف أنسى طفلتي الصغيرة مسرة كيف إنها قبل أول يوم دراسي لها بشهر كامل كانت تستيقظ كل صباح باكراً وتعلق شنطتها في ظهرها وتمسك المصحف بيدها اليمنى وتقول لها أمها أتركي المصحف يا مسرة .. وتجيبها “لا أنا خلاص زي فراولة ماتاخدوا مني المصحف أبداً”.

وبالرغم من قدرتي المادية الجيدة إلا أن زوجتي رفضت أن تكون معنا خادمة في البيت حرصاً منها أن تعتني بأبنائها بنفسها تسهر عليهم وترضعهم حتى يفطموا وإن طالت الفترة إلى عامين أو يزيد، وأنا في المقابل كنت لهم سائقاً وأرعى مصالحهم وطلباتهم بنفسي، فكنا بذلك أسرة مترابطةُ متلاحمةُ يسعى كلاً منا ليخدم الآخر. وأبناؤنا لايفارقوننا ولا أذكر أننا خرجنا يوماً وتركناهم لغيرنا يعتنون بهم، وكانت كل تقارير مسرة في مدرستها تعكس مثالياتها وإنضباطها وإجتهادها وذكاءها وإن كان فيها شيء عجبت له مدرستها وهو إلتفاف زميلاتها دائما حولها، وكانت المدرسة تعجب لذلك فسألت مسرة يوماً عن سبب ذلك فكانت إجابتها بتلقائية فطرية “أنا أحبهم وهم يحبونني” وهل لغير الحب الصادق تنجذب الأرواح وتُمْتَلك، وقد أتي الله بحق صغيرتي محبة في قلوب خلقه إلى الحد الذي جعل أمها تخاف عليها، وأنهت مسرة عامها الأول وكانت نهاية مشرفة حيث اتصلت بي مديرة المدرسة وسألتني هل عند مسرة مُحَّفظة للقرآن في البيت فأجبتها بلا … هي تحفظ فقط في مدرستها … فقالت: “أنا أستغرب من قرآتها فإنها تقرأ بتجويد لابد أنها درست على يد أحد”.

فأستئذنتني المدرسة أن تأخذها لتقرأ في الفصول الأخرى لتشجيع باقي الطلبة فترددت واستشرت أمها ثم توكلنا على الله، واتصلت بي المدرسة مرة ثانية تستأذنني أن تقرأ مسرة في حفلة للطلبة الكبار فأجبناها أن مسرة مازالت طفلة صغيرة وهذه مدرسة تحفيظ فيها كثير من الفتيات الحافظات، ولكن الله وهب مسرة صوتاً جميلاً وتلاوة مميزة وكانت تتقمص أصوات كبار القراء كالحصري والمنشاوي بل وتتجهم وترسم على وجهها الجدية والوقار وكأنها شابة لاطفلة، وكانت مسرة مولعة بالقرآن ومتلهفة أن تحفظ أكبر قدر ممكن حتى تلحق بأختها الكبرى فريال، حتى أنها أصرت في السنة الثانية أن تَسبق المقرر الدراسي ووعدتُ مسرة أن أحضر لها مُدرسة تحفيظ للقرآن الكريم.
وفي يوم سألتُ زوجتي ما سبب استعجال مسرة في حفظ القرآن، فطلبت منها أن تستفسر من مسرة وتستدرجها في الكلام لتعرف منها ماتريد من وراء هذا الإستعجال، هل هي تنتظر منا مكافأة أو هدية أو غير ذلك؟… وأي إجابة تلك التي أجابتنا بها مسرة فقد قالت لنا “اللي يحفظ القرآن ربنا يلبسه تاج الملك ويلبس أمه وأبوه ولو أختي فريال حفظت قبلي حتلبسكم التاج قبلي وأنا ما أبغى .. أنا أبغى التاج حقي هو اللي تلبسوه الأول”.

والله ما سررت في الدنيا قدر ما سررت بتلك الكلمات، واستمرت مسرة تجلب لنا السرور بشتى أشكاله وصوره وألوانه، فقد حباها الله ذكاءً حاداً وسرعة في الحفظ عجيبة فكانت تحفظ صفحتين في اليوم الواحد حفظاً كاملاً ليس فيه خطأ واحد، وكان لها تفسيرها الفطري للآيات .. تلك الفطرة الحية التي هي خير مايتجاوب مع كلام فاطر السماوات والأرض دون تصنع أو تكلف أو تطويع للآيات أو نظر عميق فيها بتلك الأدوات التي يحتاجها العلماء لفحص معاني الآيات، ففي يوم جاءتني أختها فريال وقالت لي: (يعني أيش “قد سمع الله قول التي تجادلك في زوجها” يعني ربنا جاء معاهم في الغرفة سمعهم) فأجابتها مسرة وهي مستلقيه: “يعني أفهمي يافراولة إن الله يسمع كل شيء حتى لو كنتي تحت السرير يسمعك”، وكأنها بقولها هذا قد فهمت قوله سبحانه وتعالى “يابني إنها إن تك مثقال حبة من خردل فتكن في صخرة أو في السموات أو في الأرض يأتي بها الله إن الله لطيف خبير “، أو قوله سبحانه وتعالى “وعنده مفاتيح الغيب لايعلمها إلا هو ويعلم ما في البر والبحر وماتسقط من ورقة إلا يعلمها ولا حبة في ظلمات الأرض ولا رطبِ ولا يابسِ إلا في كتاب مبين”.

كنا في يوم نجلس ونشاهد التلفاز فذُكر حديث السبعة الذين يظلهم الله في ظله يوم لاظل إلا ظله وتحدثنا عن أناس يطردهم الله من رحمته قالت: “أيوه الملاعين” قلت لها “الملاعين مين؟… الشياطين؟” قالت “لا” قلت لها “يعني أيش؟” قالت “دحين أقول لك”، وقعدت تقلب في التلفزيون ولكن لم تجد ضالتها ونَسيتُ أنا الموضوع وبعد نصف ساعة أو يزيد وجدتها تصرخ علي فنادتني فأتيتها فوجدتها تنظر إلى قناة تعرض حديث “لعن الله الراشي والمرتشي” قالت لي “هدول في منهم ملاعين … هم دول الملاعين زي كده عرفت يابابا مين هم الملاعين”، وأنا أقف بين يدي طفلتي في ذهول وأندهاش، هل كانت طفلتي حقاً تعلم معنى الراشي والمرتشي!.. أو أن الذي أنظقها هو فاطرها، وهل يجري الله الحق إلا على ألسنة مثل هذه القلوب الطاهرة، وهذا الفطرة السليمة التي لم تنتكس بعد … حقاً انها قصة عجيبة، ولكن لله في خلقه شؤون.

مازالت كلمات صغيرتي وضحكاتها تدوي في أذني … وماذكرت لكم هنا إلا غيض من فيض، وهذا الذي يجعلني أسأل نفسي كيف أوزع صبري أأوزعه على كلماتها وضحكاتها التي مازلت أسمع صداها في أرجاء بيتي؟… أو أوزع صبري على ذكرى كل حركة قامت بها في حياتها محفورة في عقلي وقلبي؟… أو كل مكان كان له مع طفلتي لحظة حياة؟… هذه الذكريات التي تخرج لي بطفلتي من قبرها فأعود أدفنها، فكنت لا كالذي دَفَن روحاً واحدة بل كالذي يدفن أرواحاً وأرواحاً في كل لحظة من حياته.. وإنني أموت بموتها كل يوم على قدر ما يُحيي المكان والزمان من ذكراها.

وكان من نقاط ضعف صغيرتي مسرة أنها كانت لا تتحمل أن ترى أحداً مكدراً متألماً حزيناً، وكنا إذا أردنا منها شيئاً لا نجد أنجع طريقة من ان نتظاهر بالحزن والبكاء فتفعل مانطلبه منها حتى لانحزن وتقول لنا “أهم شيء إنكم ما تزعلوا”.

وتمر الأيام وجاء 4/4/1427هـ، وأكرمنا الله بمولد ميسرة، والذي كان كالتوأم لأخته مسرة وإن كان فارق السن بينهما أربع سنوات.

حقاً قلما تجد إثنين يتماثلان في الطباع والتصرفات كتماثل مسرة وميسرة، حتى طريقة حَبْيَهُما على الأرض تختلف عن أختهما فريال وأخوهما بلال الذي لم يكن قد ولد بعد فكانا يحبيان بإستعمال يد واحدة فقط هي اليد اليمنى، وكان هذا ليس بطبيعي عند الأطفال، وكانا ملتصقان كالتوأم … تشابه عجيب بينهما في الصفات والحركات والطباع. وكان ميسرة دائماً يستعين بمسرة دون غيرها في البيت في كل صغيرة كبيرة، وكان ميسرة ينام في السرير مع أمه ثم انتقل إلى غرفة إخوته وكان يلعب مع أخته طوال يومه وكان يقوم في منتصف الليل ويلجأ إلى أخته الكبرى فريال وينام معها إلا في ليلة واحدة ولأول مرة في حياته ذهب ونام في حضن أخته مسرة، وكانت تلك هي الليلة الأخيرة في حياة ميسرة ومسرة.

وكان لميسرة كذلك روح عجيبة، وإبتسامة عريضة لاتغادره، فكان مليء بالحياة يدندن طول وقته بألحانه الخاصة وينشد بكلمات يختلقها وينمقها، انها طاقة عجيبة ونفس حلوة لم أره يوماً يستيقظ من نومه إلا وإبتسامته العريضة مرسومة على وجهه حتى وهو يحاول فتح عينيه عند الإستيقاظ، وكان ميسرة كأخته مسرة يحب العطور، أذكر أنني دخلت يوماً ووجدت البيت مفعماً بالعطر ووجدت مسرة وكان عمرها آنذاك خمسة أعوام وقد أفرغت عودة كانت لي أثيرة وقبل أن أنطق قالت لي “أنت مو قلت إحنا كلنا مع بعض في كل شي” فَسَكَتُّ، وكان ميسرة مثل اخته يتسلق على التسريحة ليشم رائحة العطور وخفت عليهما من إستعمال عطر الكبار فأحضرت لهما عطور خاصة بالأطفال ،وكان ميسرة يحب العطر كثيراً ويسميه “أناه” وكان العطر عنده قيم وعزيز.

وكبرت مسرة وكبر ميسرة تحت سمعي وبصري وكانت مسرة تغار من ميسرة وهو معي، وأتضح لي أنها لم تغر من حبي له، وإنما غارت عليه مني فهي تريده ان يكون معها طوال الوقت … انها غِيره لم نسمع عنها من قبل، وكانت ضحكة ميسرة تملأ البيت كله وكان عندما يأوي إلى فراشه للنوم تُسرع باقي الأسرة للنوم لأن البيت يصبح هادئاً هدوءً موحشاً دون غنائه ودندنته وقهقهته وروحه المرحة العجيبة.