مهاتير…حالم صنع واقعا

إن لكل نجاح أمة من الأمم أو شعب من الشعوب عوامل عدة من أهمها القيادة الطموحة بعيدة النظر التي تصنع الواقع, ولقد كتب الله لي أن أحضر الندوة التي أقامتها الغرفة التجارية والصناعية في جدة يوم الأحد الموافق العشرين من شهر أكتوبر لعام 2002م التي أقيمت لرئيس وزراء ماليزيا دولة الدكتور مهاتير محمد. وقد تابعت كذلك تفاصيل المحاضرة التي أقيمت له في الرياض قبل ذلك التاريخ بيوم.

 

وتاريخ الدكتور مهاتير محمد مليء بالتحديات التي أثبتت صلابة الرجل وحنكته وبعد نظره ووطنيته التي انتهت بالطبيب مهاتير محمد ليصبح أنجح رئيس وزراء عرفته دولة ماليزيا, بل وأصبحت ماليزيا, الفتية تقترن باسم الدكتور مهاتير محمد حيث نجح أن يقفز بها خلال عشرين عاماً من دولة مصدرة للمطاط والقصدير فقط الى دولة مصدرة للمنتجات الالكترونية والكهربائية وغيرها من السلع الصناعية لتشكل نحو ثمانين بالمائة من اجمالي الصادرات.

وقد طرح الدكتور مهاتير محمد تجربة ماليزيا أمام السعوديين وبدأ كلمته بقوله: (انني لا أعرف القدر الكافي عن الاقتصاد السعودي), ومع ذلك فانني أعتقد بأن الدكتور مهاتير محمد قد قدم طرحا يعكس روحه القيادية الطموحة وخبرته الواسعة كرئيس وزراء لدولة أثبتت مصداقيتها بين شعوب الارض.

ومن المقترحات التي قدمها أهمية تحويل النفط الى منتجات أخرى أهمها الطاقة الكهربائية, وبانتاج الطاقة الكهربائية بدلا من تصدير النفط.

يمكن تحقيق دخل ثابت حيث أن التقلبات في أسعار الكهرباء لن تكون في مستوى تقلبات أسعار النفط.

واسترسل بقوله: (انه يمكن أيضا نقل النفط عبر الانابيب لمسافات بعيدة كما يمكن شحنه لأي مكان في العالم, وباستخدام ميزة التكلفة المنخفضة للنفط تستطيع المملكة بناء محطات طاقة كهربائية في كل أرجاء العالم, على الأقل في شكل مشاريع مشتركة في البلدان التي ستزودها بالطاقة الكهربائية, وتكمن جاذبية مثل هذه المشاريع في تزويد محطات الطاقة الكهربائية بامدادات نفطية ثابتة).

انني لست بصدد التفصيل في جميع اقتراحات الدكتور مهاتير فقد نشرت في الصحف, وكما هو الحال في كل تصورات مستقبلية فانها تقبل المناقشة والاختلاف, ولكن الذي آذاني أكثر ما آذاني هو ردود فعل الكثيرين في قولهم ان اقتراحات الدكتور مهاتير محمد يغلب عليها الخيال والاحلام, والكثير من المنتقدين يدعون أنهم أكثر واقعية.

والحقيقة أن أعتى ما يمكن أن تبتلى به أمة هو انعدام روح الطموح عند قياداتها ومفكريها, وهل كان للانسان أن تطأ قدمه القمر إلا برجال أعملوا خيالهم وفتحوا لأحلامهم نوافذ وساروا فيها بأعمالهم فأحالوا الأحلام واقعا وسادوا الدنيا, وهل ما أنجزته ماليزيا تحت قيادة رئيس وزرائها إلا حلم بدأ قبل ربع قرن من الزمان وأصبح اليوم واقعا وحقيقة.

لقد أنهى الدكتور مهاتير كلمته بقوله: (ان كل ما قلته في سياق هذه الكلمة يمكن تحقيقه, شريطة أن تتوفر بطبيعة الحال الارادة للقيام بالمتطلبات اللازمة, ان الخيار لكم والاسلام لا يقف حائلا دون ذلك, وفي الحقيقة فان الاسلام يفرض علينا ضرورة القيام بكل ما أسلفت ذكره وأشرت الى امكانية تحقيقه).

ان الثراء الحقيقي لأي أمة من الأمم أو شعب من الشعوب لا يكون بما تحويه أرضهم من خيرات وإنما بما يقدر الله لهم من غنى وثراء في عقول وقلوب أبنائها ومفكريها وقياداتها, ولو استبدل هذا الثراء بالفقر فإن هذا النوع من الفقر لا تعوضه ثروات الأرض كلها.

يقول الرافعي في كتابه (وحي القلم) في مقال له بعنوان (قلت لنفسي وقالت لي): (ليست دنياك يا صاحبي ما تجده من غيرك, بل ما توجده بنفسك, فإن لم تزد شيئا على الدنيا كنتَ أنتَ زائدا على الدنيا, وان لم تدعها أحسن مما وجدتها فقد وجدتها وما وجدتك, وفي نفسك أول حدود دنياك وآخر حدودها, وقد تكون دنيا بعض الناس حانوتا صغيرا, ودنيا الآخر كالقرية الململمة, ودنيا بعضهم كالمدينة الكبيرة, أما دنيا العظيم فقارة بأكملها, واذا انفرد امتد في الدنيا فكان هو الدنيا).

وان الله ليزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن.

 

 

جريدة عكاظ – الثلاثاء 23 شعبان 1423هـ الموافق 29 أكتوبر 2002 م