مونوبولي

أنتج فريق من الشباب السعودي فيلماً من نوع الكوميديا السوداء المضحكة المبكية بعنوان مونوبولي، وعرض على اليوتيوب وشاهده أكثر من مليون شخص في أسبوعه الأول، وهذا الفيلم يعد بمثابة صرخة استغاثة من الشباب، فمنذ أكثر من عقدين من الزمن وموضوع الأراضي البيضاء موضوع مناقشة وحوار ساخن.. والأراضي البيضاء هي الأراضي المتواجدة في المناطق العمرانية والتي أمدتها الدولة بالخدمات الأساسية من طرق وكهرباء وماء وتمنع أصحابها في بيعها.


ملاذ استثماري آمن

وبما أن بلادنا الغالية لم تفرض بعد على هذه الأراضي أي زكاة أو ضرائب أو رسوم فقد أصبح امتلاك هذه الأراضي وتركها للزمن ملاذا استثماريا آمنا، فالأراضي السعودية كما يقولون «لا تأكل ولا تشرب وإن مرضت فإنها لا تموت وإنما تكبر يوماً بعد يوم».  وأصبح الأغلبية من تجار الأراضي لا يبيعونها إلا لسد احتياجاتهم السنوية. ومع التسارع في النمو السكاني، ازداد الطلب باطراد، وبذلك استمر ارتفاع أسعار الأراضي مما أدى إلى عدم احتياج أصحاب الأراضي إلا لبيع نسبة أقل مما في أيديهم توفية لاحتياجاتهم المالية والنقدية، وبقيت الأراضي بحوزتهم بيضاء، ودخل المجتمع في دوامة مستمرة لا يستطيع الخروج منها. وقد أذهلنا أخي الأستاذ عصام الزامل، الكاتب الاقتصادي، في إحدى مقالات مدونته بإحصاءات مرعبة بين فيها أن إجمالي مساحات الأراضي في الرياض هي أكثر من 5000 كم2 ولكن المساحة التي تم استخدامها فعلا بالبناء عليها لا تتجاوز 23%، بمعنى آخر أن 77% من الأراضي التي أنفقت عليها الدولة لاستصلاحها بتوفير الطرق والكهرباء والماء لها هي أراض بيضاء مجمدة محتكرة، وكذلك الحال في باقي مدن المملكة، وبذلك فإننا لسنا بحاجة إلى التوسع كما يدعي البعض، فمخزون الأراضي البيضاء كاملة الخدمات كاف لتلبية الاحتياج وأكثر إذا استطعنا أن نحرك هذه الأراضي التي أصبحت بمثابة أراض بور وغير مستفاد منها، وللمجتمع والدولة حق فيها نظير ما استثمرته فيها من مال الشعب لتوفير الخدمات لها. وبزيادة المحتكرين وباستمرار أسعار الأراضي في الارتفاع غير المنطقي، زادت تكلفة امتلاك المنزل على المواطن السعودي المسكين (خاصة أصحاب الدخل المحدود)، ولذلك تجد دولة ثرية مثل السعودية معظم أبنائها لا يملكون مسكناً، بل وتشير الإحصائيات إلى أن المواطن لا يستطيع بأسعار الأراضي الحالية أن يمتلك بيتاً إذا كان دخله أقل من 15 ألف ريال، وإذا علمنا بأن أكثر من 90% من السعوديين دخلهم أقل من 15 ألف ريال اتضحت الصورة للجميع.  وكذلك فإن ارتفاع أسعار الأراضي يرفع من إيجارات الشقق وما ينفقه المواطن لدفع الإيجار من دخل اليوم يصل إلى 30% ويتوقع أن يصل إلى 50% من دخله، مما سيؤدي إلى زيادة الرواتب وزيادة أسعار الخدمات والمنتجات التي تنتجها الشركات، وكذلك فإن ارتفاع أسعار الأراضي يزيد من إيجارات المحلات التجارية ويرفع أسعار السلع ومبيعات المتاجر والذي يدفع ثمنه أخيراً ودائماً هو المواطن المسكين.

 

آثار سلبية

سلسلة الآثار السلبية لا تقف عند هذا الحد بل تؤثر كذلك على قدرة الوزارات الحكومية تحقيق مشاريعها التطويرية مثل الصحة والتعليم والإسكان نظراً للارتفاع الحاد لأسعار الأراضي وهذا ما تطالعنا به الصحف بين الحين والآخر.  كما يقود ذلك إلى إبطاء وتثبيط القطاع الخاص في الاستثمار فيما ينفع المجتمع، كالاستثمار في التعليم والصحة والصناعة.. وكلها مشاريع قد تفقد جدواها الاقتصادية في جو الارتفاع الحاد في أسعار الأراضي.  وبذلك تصبح الأراضي البيضاء وسيلة لحفظ ثروة أصحابها وتنميتها على حساب بناء المجتمع والاستثمار في مجالات الحياة البناءة.  ولذلك يقال إن هنالك نوعين من الأثرياء: النوع الأول أثرياء يضيفون للعالم مثل بيل جيتس Bill Gates الذي تقدر ثروته بخمسين مليار دولار، ولكن تقدر القيمة الاقتصادية التي قدمها للعالم بما يفوق ثلاثة آلاف مليار دولار، والنوع الثاني أثرياء مثل تجار الأراضي البيضاء الذين يزيد ثراؤهم على حساب معاناة المواطن والمجتمع.  وأكثر المتضررين هم الشباب، رأس المال الحقيقي لأي مجتمع، وفي السعودية بالذات يشكلون الأغلبية العظمى من المجتمع، وارتفاع الأراضي يعيق هؤلاء الشباب عن إيجاد مسكن لهم وبذلك تأخر الزواج وتكوين الأسرة وما يترتب عليه من عواقب وآثار سلبية أخلاقية واجتماعية، حيث إن امتلاك المنزل الخاص هو بمثابة العمود الفقري لأي حياة مستقرة كريمة.  ويحق لنا أن نقف متسائلين في ذهول! لماذا يحاكم القانون احتكار السلع مثل المواد الغذائية والمنتجات الضرورية ولا يعامل احتكار الأرض بالمثل في حين أنه أشد فتكاً وضرراً، وقد رأينا معا أثره السلبي بشكل مباشر وغير مباشر على جميع النشاطات الاقتصادية والتنموية في المجتمع دون استثناء.

 

تثبيط الحركة الاقتصادية

فتجد كمثال أن الدولة تمنع الاحتكار في الحديد، فإذا اكتشفت أن أحدا اشترى حديداً وخزنه لتقليل العرض في السوق عاقبته وشهرت به، وهي محقة في ذلك، لما لهذا الاحتكار من أضرار مباشرة للمستهلكين. فلماذا نسمح باحتكار الأراضي البيضاء، بالرغم من أن تبعاتها وسلبياتها أكبر من غيرها على مستوى المعيشة للفرد والمجتمع وتثبيطها للحركة الاقتصادية والتنمية في المجالات الحيوية البنائة المنتجة بل والتوسعات والخدمات في المرافق الحكومية التي كلها تساهم وتساعد في خلق وظائف جديدة.  إن احتكار الأراضي أشد ضرراً من احتكار كثير من السلع الأخرى، فنحن لا نستطيع أن نستورد أرضا من الخارج لنوازن العرض بالطلب، كما أننا لا نستطيع أن نستحدث أو ننتج أراضي جديدة، فالأراضي ليست سلعة للمتاجرة والتربح لأنها مورد طبيعي محدود، وإننا لم نسمع أبدا عن ظاهرة تجارة الأراضي البيضاء في الدول المتقدمة حيث أنها غير مجدية، وبالتالي فإن التبجح بحرية الملكية أمر لا يمكن قبوله لأننا بذلك نرهن مصير المواطن بل وأجيال المستقبل في يد طرف قد لا يرى إلا الربح المادي.  بل وتجد أن أكثر الاقتصاديين تحرراً مثل Milton Friedman الحائز على جائزة نوبل في الاقتصاد والذي يعد بمثابة الأب الروحي لليبرالية الاقتصادية، وتجده دائماً معارضاً لأي نوع من أشكال الضرائب، ولكنه يقر بأن هناك فوائد ومنافع عظيمة لوضع ضرائب على الأراضي، لأن ذلك يسهم في تحريك ونمو الاقتصاد الحر وتحريك وتدوير المال، أليس ذلك من أهم أهداف وغايات ومقاصد الاقتصاد الإسلامي حتى لا يكون المال دولة بين الأغنياء؟ ولذلك نجد الإسلام قبل أربعة عشر قرناً يحرم الاحتكار ولا يستثنى احتكار الأراضي البيضاء التي هي أحد أبشع صور هذا الاحتكار وأكثرها أذى للناس.  فهذا سيدي رسول الله صلى الله عليه وسلم يسحب الأراضي المحتكرة من قبل القبائل، والتي كانت تسمى (الحمى)، ويجعلها مشاعاً للمسلمين. وهذا سيدي عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه.. يصدر تشريعات لحماية المسلمين من احتكار الأراضي حين قال «ليس لمحتجز حق بعد ثلاث سنين». وعلى هذا كانت الأراضي البيضاء تسحب وتعود لبيت مال المسلمين في حال عدم استعمالها أو استخدامها.  أما شيخ الإسلام ابن تيمية فيقول.. «وعندما تحرم الشريعة الإسلامية الاحتكار فإنها لا تترك المحتكرين يستفيدون من احتكارهم بل توجب على ولي الأمر أن يقوم ببيع الأموال المحتكرة عن محتكريها بثمن المثل فلو امتنع المحتكر عن بيعها بالمثل باعها ولي الأمر ودفع لصاحبها ثمن المثل».


احتكار الأراضي

إن احتكار الأراضي البيضاء هو ظلم كبير لذوي الدخل المحدود لكن الإحساس بوقوع هذا الظلم على المواطن في بلادنا هو أكبر وأشد وطأة نظراً لأن نسبة كبيرة من تلك الأراضي البيضاء وكانت منحاً ولم تكلف مالكها شيئاً، أو في حالات أخرى أراض تم شراؤها بثمن بخس قبل عشرات السنين وتركت لحالها فما استفاد المجتمع منها. وهناك تجارب ناجحة من دول مجاورة، ففي الكويت مثلا وضع قانون جديد للعقار هدفه منع الاحتكار وخفض أسعار الأراضي البيضاء المخصصة للسكن، والقانون الجديد يمنع الشركات والمؤسسات من امتلاك الأراضي المخصصة للسكن والمتاجرة بها. كما إنه يفرض ضريبة سنوية على الأفراد الذين يمتلكون أراضي تزيد مساحتها عن 5000 متر مربع. ومنذ تطبيق هذا القرار وأسعار الأراضي تتجه للانخفاض وهذا نجاح متوقع لقانون منطقي فاحتكار الأراضي لا يقره شرع ولا يبرره عقل ولا يدعو له منطق، فالمواطن كما ذكر سابقاً يدفع عملياً ضريبة لكل شيء ينفقه ولكن هذه الضريبة تذهب لجيوب ملاك الأراضي البيضاء عوضاً عن خزانة الدولة. وقد سعدنا ونحن نقرأ في الصحف منذ فترة ما يفيد بأن مجلس الشورى قد اقترح وأوصى بفرض رسوم على الأراضي البيضاء غير المستغلة داخل النطاق العمراني.. ثم تبعتها أخبار متناقضة عن مصير هذه التوصية أو الاقتراح، ونرى تباطؤاً في التطبيق على أرض الواقع بالرغم من خطورة الموضوع. ويؤكد أخي الأستاذ عصام الزامل بحساب بسيط أن فرض الزكاة السنوية على الأرضي البيضاء سيفوق ثلاثين مليار ريال علماً بأن الزكاة الحالية على جميع الشركات في المملكة حوالي 13 مليار ريال، أي أن زكاة الأراضي وحدها هو ما يقارب ثلاث أضعاف زكاة ما عدا ذلك. وسيضطر ملاك الأراضي لبيع بعض أراضيهم لدفع الزكاة السنوية، وعملية البيع هذه ستكون بمثابة تصحيح للأسعار المبالغ فيها، أما في حالة عدم بيعهم للأراضي ودفع الزكاة ففي هذا كذلك خير؛ فهذا المبلغ يمكن أن ينفق لبناء مئات الآلاف من الوحدات السكنية في العام الواحد، وبناء مساكن للمواطنين يمكن أن يعد من المصارف الشرعية للزكاة بعد أن حول تجار الأراضي غالبية المواطنين إلى فقراء لا يستطيعون امتلاك مسكن. إنني أدرك أن وضع الرسوم أو الزكاة أو الضرائب لن يكون العامل الوحيد لتصحيح ما أفسده الاحتكار، فنحن في حاجة إلى تكامل المنظومة العقارية ووضع تشريعات مناسبة وإيجاد التمويل المناسب للمطورين العقاريين وغيره لتكتمل المنظومة. لم يصدق من قال بالمثل الدارج «إن الأرض في بلادنا لا تأكل ولا تشرب وإذا مرضت فإنها لا تموت». فالأراضي البيضاء في بلادنا تأكل وتشرب خير المجتمع كله وتخزن ما تأكله وتشربه لعقود عديدة لتجتره أضعافاً مضاعفة لمحتكرها فقط وتحرم المجتمع من خيراتها. الأرض لا تموت ولم يصدق من قال «إن الأرض لا تموت». وهل هناك أكبر إماتة لها من عدم إحيائها بعمارة الأرض ونفع المجتمع وتحقيق غاية خلق الله لها. بل وأصبحت أداة موت لطموح وأحلام جيل بأسره. حقاً إن فيلم مونوبولي يعد بمثابة صرخة استغاثة من شبابنا الذين هم طاقة المجتمع ويشكلون الأغلبية الساحقة. وإن لم تجب هذه الصرخة بما تستحقه من تصحيح وإصلاح فسيتبعها إحباط قد لا يدع للشباب مناصاً من التعبير عن إحباطهم بطرق أخرى نتمنى أن نتفاداها لما في ذلك مصلحة البلاد والعباد.

إن الشباب هم طاقة هذا المجتمع المتجددة، والطاقة تعني الحركة، وهذه الحركة إما أن تكون حركة وفق منهج عملي مدروس لبناء المجتمع وتحقيق مفهوم الوطنية الصحيحة من توطين الخير والعدل واستئصال الشر والفساد، وإما أن تصبح عشوائية جامحة جانحة تتخبط في كل اتجاه. وليس أشد ألماً على نفس الشاب من أن يعجز عن بناء أسرة توفر له السكن والاستقرار النفسي والروحي. فهل نقدم مصلحة حفنة من الأفراد الأثرياء ملاك الأراضي المحتكرين على مصلحة جيل بأسره، وهل نتأخر في السير نحو تصحيح أحد أهم عوامل تحقيق العدالة الاجتماعية واستقرار البلاد وخير العباد؟؟