نحو نهضة في التعليم

شاء الخالق أن تكون المعجزة همسة في الغار، لم يُسمِعها الله إلا لنبي آخر الزمان. إنها أول أمر. أول فرض نزل به القرآن فأصبحت شعار أمة. “أمة اقرأ”. إنها ثورة العلم على الجهل. أمة أدركت أن الأخذ بالعلم من أسمى صور العبادة للرحمن. أمة أخرجت بالعلم العلماء، فتحقق بهم أسرع وأغرب طفرة حضارية في تاريخ الإنسان. إنها البداية. إنها النهاية، وكل ما بين البداية والنهاية يذكرنا بأول كلمة نزل بها القرآن.

 

يقول المفكر الجليل مالك بن نبي في كتابه “شروط النهضة” “إن الحضارة إنسان وتراب وزمن، وبذلك فإنه عند نقطة الانطلاق ليس أمامنا سوى هذه العوامل الثلاثة، وفيها ينحصر رأس مال الأمة الاجتماعي، وكل ما عدا ذلك من مبان وصناعات، يعد من المكتسبات لا من العناصر الأولية”.

 

إن المحور الأساس للعوامل الثلاثة هو الإنسان، وبه تعرف الحضارة بأنها جملة العوامل المعنوية والمادية التي تتيح لمجتمع ما أن يوفر لكل عضو فيه جميع الضمانات الاجتماعية اللازمة لتطوره.

 

والمجتمعات إما أن يغلب عليها روح عالم الأشياء أو يغلب عليها روح عالم الأشخاص والأفكار، فإن غلب عليها روح عالم الأشياء، فإنك تجد الاستثمار في الحجر أكثر من الاستثمار في البشر، وإن غلب عليها روح عالم الأفكار، فإنك تجد الاستثمار في البشر أكثر من الاستثمار في الحجر.

 

وقد أدركت المجتمعات بالدراسات والأبحاث أن أفضل استثمار يكون في المراحل الأولى من حياة الإنسان، أي مرحلة الدراسة، خاصة في المجتمعات التي يشكل الشباب فيها الأغلبية.

 

وقد أكدت الدراسات أن كل دولار يستثمر في مراحل التعليم الأولية يدر عائدا على الاستثمار يصل إلى 17 دولارا، أي سبعة عشر ضعفا، كما أكدت أن أهم عامل في نجاح منظومة التعليم في المدارس هو المعلم، وأن المعلم المتمكن الفعال يؤثر على تحصيل الطالب بمقدار 3 إلى 4 أضعاف معلم آخر ضعيف غير فعال، وأن التأثير التراكمي على مدى ثلاثة أعوام يعادل تحصيل 37% مع المعلم غير الفعال، مقارنة بـ90% مع المعلم الفعال المتمكن.

 

وفي فيلم وثائقي بعنوان “في انتظار سوبرمان” أنتج عام 2010 بين أن نفس الطالب بين يدي معلم فعال متمكن يستطيع أن يحصل على ثلاثة أضعاف العلم مقارنة بالمعلم غير الفعال الضعيف، أي أن تحصيل عام واحد مع معلم فعال أفضل من تحصيل ثلاثة أعوام مع معلم غير فعال.

وبذلك أصبح التحدي الحقيقي الذي يواجه النظام التعليمي أو منظومة التعليم هو كيفية رفع مستوى الملايين من المدرسين، أو: هل هناك طريقة نستطيع بها أن نحرر التعليم لنجعل الطالب يمتلك مفاتيح المعرفة في أي مكان وأي وقت يريد؟ وأن تكون المعلومة متاحة للكل بأفضل طرق إيصالها وشرحها؟ وأن نحمي الطالب من أن يصبح رهينة وضحية معلم غير فعال؟
من أوائل من تنبه إلى هذا الاحتياج ولبى نداء الحاجة شاب أميركي من أصل هندي اسمه سلمان خان عرف بتفوقه وحصل على درجة الكمال في امتحان السات SAT، ويحمل ثلاث درجات من معهد ماساتشوتس وماجيستير في الهندسة وعلوم الحاسب الآلي، وكذلك ماجستير من كلية هارفارد للأعمال.

بدأت القصة في أواخر عام 2004، إذ بدأ في تدريس مادة الرياضيات لأقارب له عبر الإنترنت، وعندما زاد طلب الأقرباء والأصدقاء للمساعدة، قرر توزيع الدروس على موقع يوتيوب، وأنشأ عام 2006 حسابا على اليوتيوب، وبسبب شعبية الفيديوهات المعروضة وشهادات التقدير التي تلقاها من الطلاب، قرر سلمان ترك عمله كمحلل مالي في صناديق الاستثمار في أواخر 2009، وتفرغ لتطوير قناة أكاديمية خان على اليوتيوب بدوام كامل.

 

واليوم تعد أكاديمية خان التعليمية أشهر نموذج عالمي في هذا المجال، فتقوم بتوفير التعليم عالي الجودة لأي شخص في أي مكان في العالم. وقد حققت أكثر من 42 مليون زائر، ويوفر موقعها على الإنترنت أكثر من ثلاثة آلاف وستمئة محاضرة صغيرة بمعدل عشر دقائق للحلقة عبر فيديوهات مخزنة على اليوتيوب لتدريس مواد مثل الرياضيات والفيزياء والكيمياء والأحياء والتاريخ والفلك والاقتصاد، إضافة إلى أكثر من 123 وحدة تدريبات آلية مع تقييم مستمر.

 

وقد ابتعد خان عن أسلوب المدرس الذي يشرح الدرس على السبورة بتقديم المحتوى بطريقة توحي بالجلوس بجانب الطالب والعمل معه على حل المشكلة، فلا يرى الطالب وجه المدرس إنما يرى كتابته ورسوماته البيانية على السبورة الإلكترونية والفيديوهات التعليمية، إذ بينت الدراسات والمشاهدات أن هذه الطريقة هي أكثر الطرق فعالية للتعليم، وبذلك يستطيع الطالب إعادة تشغيل الفيديو حتى يستوعب الموضوع بلا خجل، وأحدث خان تحولا وثورة حقيقية في العملية التعليمية حول العالم.

 

أحدث خان هذا التحول لأنه انتقل من التعليم التقليدي التلقيني إلى التعليم التفاعلي النشط الذي بينت الدراسات أنه يزيد من استيعاب الطلاب للمادة بنسبة تتعدى خمسين بالمئة، نظرا لقدرته على تفعيل أجزاء الدماغ المسؤولة عن الفهم والحفظ بطريقة أكثر فعالية، وذلك لانسجامه مع الطريقة الطبيعية الفسيولوجية لانتقال المعلومات في أجزاء الدماغ في عملية التعلم.

 

ويتطلع خان لأن يجعل من أكاديميته المدرسة الافتراضية الأولى المجانية في العالم، إذ يتاح لأي إنسان أن يتعلم ما يريد بالمجان، وقد استحق خان بذلك أن تصنفه مجلة “التايم” كواحد من مئة شخصية عالمية أثرت بفعالية في حياتنا المعاصرة.
نموذج آخر حذا حذو أكاديمية خان، فأنشئ عام 2009 موقع إلكتروني من قِبل ريتشارد لادلو، وأطلق عليه اسم أكاديمية الأرض، يقدم فيديوهات محاضرات مجانية عبر الإنترنت على أيدي نخبة من الأساتذة من جامعات مرموقة مثل: هارفارد، وإم آي تي، وبرينستون، وميتشجان، وستانفورد، وكاليفورنيا، وباركلي وييل.

 

وفي عام 2011 بدأت تركيا بتطبيق أكبر مشروع استثماري في التربية والتعليم في تاريخها بقيمة 7 مليارات، وأطلق عليه اسم مشروع “الفاتح” تيمنا بالقائد العظيم محمد الفاتح، ليتم توزيع القارئ الإلكتروني “آي باد” مجانا مشمولا ببرنامج الفاتح على 15 مليون طالب ومليون مدرس، وتركيب ألواح ذكية بدلا من الألواح السوداء في 570000 صف دراسي و42000 مدرسة.

 

ونقل التعليم في تركيا إلى عصر التقنية لتصبح الكتب الدراسية كلها مضمنة في جهاز الآي باد بالفيديوهات التوضيحية والصور والخرائط والرسوم البيانية. وبذلك يأتي الطالب إلى المدرسة ومعه الآي باد فقط، لا عشرات الكتب التي ترهق كاهله وتؤدي لأضرار جسدية في الظهر والعمود الفقري، خاصة في المراحل الأولى كما تبين الدراسات.

وفي مقال قادم بإذن الله، سنتحدث عن تفعيل دور المعلم عموما، وتفعيل دور الندرة المبدعة من المعلمين على وجه الخصوص بتوظيف أحدث الطرق التقنية والوسائل التوضيحية المتقدمة والفيديوهات لتكون وسائل تعليمية بين أيديهم بما يعود بالنفع على عموم الطلاب، وبما يعود أيضا على المعلمين أنفسهم في ظل تهيئة بيئة محفزة وتنافسية.

 

 

 

 لقراءة المقالة من صحيفة الوطن الرجاء الضغظ على الرابط أدناه :

http://www.alwatan.com.sa/Articles/Detail.aspx?ArticleId=23966