نمط حياة حديث

بدأ يومه منزعجاً من صوت المنبه الذي عكر صفو نومه العميق، الذي ناله متأخراً بعد سهرة تليفزيونية شيقة امتدت لما بعد منتصف الليل، زاد من متعتها تناول وجبة سريعة دسمة مع مشروبه الغازي المعتاد. وفي إرادة وتصميم للتغلب على هذه البداية غير الهانئة ليوم جديد، تناول قدحاً أكبر من المعتاد من القهوة القوية!! أما وجبة الإفطار بصرف النظر عن مكوناتها، فإن أمرها لم يكن مطروحاً لعدم وجود وقت لها!
انطلق إلى عمله وهو يقاوم في معركته لبدء يوم جديد. تهب عليه رياح حداثة الحياة لينال قسطه اليومي من زحام السيارات وصخب أبواقها ودخان عوادمها لتنجح في إطلاق شرارة التوتر والوقوع في أسر الضغوط اليومية. وربما كانت بداية يوم عمله حواراً انفعالياً أو مشادة، ولتهدئة الموقف بحكمة يهرب لتدخين (سيجارة!!) تخرجه من حالة التوتر تلك.

 

حين يقترب الظهر يشعر بالجوع، ويكون خياره الأسهل والأسرع وجبة دسمة من مطعم الوجبات السريعة المجاور، لم يكن تصنيفها إفطاراً أو غداءً وإنما كانت بين ذلك سبيلاً.

 

مع جلوسه الطويل أمام شاشة الكمبيوتر طوال اليوم، ورنين هاتفه غير المنقطع، انتبه إلى أنه قد تأخر أكثر من ساعة عن موعد نهاية دوامه! ومع عودته منهكاً وغير قادر على عقد جلسة أسرية واستسلامه مستكيناً لبرامجه المفضلة على شاشة التليفزيون ينام .. لتكتمل تلك الدائرة التي يكون ضحيتها (صحته). هذه الدائرة التي أصبحت نمطاً لحياة الكثير منّا، وأصبح من الضروري علينا أن نكسرها لكي ننجو من آثارها المدمرّة.
لقد سادت الكثير من الأمراض وانتشرت في مجتمعاتنا لتصبح أشبه بالوباء، وسبب ذلك نمط الحياة الحديثة التي تفرض بمتغيراتها علينا ممارسات دخيلة على الإنسانية والفطرة السليمة.

 

فعلى سبيل المثال.. انتشرت مطاعم الوجبات القمامية و(هذه الترجمة الحرفية للمصطلح الإنجليزي Junk Food)، لتواكب عصر السرعة وتوفر النكهة القوية بصرف النظر عن قيمتها الغذائية. وتحتوي وجبات هذه المطاعم على كميات عالية من الدهون في حين أنها تفتقر للعناصر الغذائية، وهي بذلك تؤدي إلى الشبع دون تزويد الجسم بما يحتاجه من المجموعات الغذائية المختلفة.. كما تؤدي الى تراكم الدهون في الجسم وبالتالي زيادة الوزن مسببةً أمراضاً عديدة استشرت في مجتمعاتنا. فلا عجب أن تصل نسبة الإصابة بالسكري مثلاً في المملكة العربية السعودية إلى 25% بين البالغين، لتعد ضمن النسب الأعلى عالمياً. بل إن الدراسات تشير إلى أن هناك 47 مرضاً سببها الرئيسي السمنة، وأن حجم الإنفاق على علاج السمنة ومضاعفاتها في المملكة يصل سنوياً إلى 19 مليار ريال، ويموت سنوياً نحو 20.000 مواطن بسبب السمنة.
أليس من الأجدر أن ينفق هذا المبلغ في الوقاية من مرض السمنة؟ بل ولإنشاء أندية رياضية مثالية في كل حي برسوم رمزية لا تحول بين اشتراك أي شاب وشابة، وإنشاء جيل جديد قد أصبحت الرياضة جزءاً من طريقة حياتهم، وأن توضع ميزانية للترشيد والتثقيف والتوعية الصحية بأضرار السمنة وفوائد الرياضة والحركة.

ولو عدنا لكيف كان يعيش آباؤنا وأجدادنا.. لرأينا أنهم كانوا بالفطرة يتناولون طعاماً متوازناً يحتوي على المجموعات الغذائية الأربع: الحليب والأجبان، اللحوم، الخضار والفواكه، ومجموعة الخبز والحبوب. وكم من عوائلنا اليوم من لا تدخل الخضروات الخضراء والفواكه بيوتهم! ألم يحثّنا الخطاب القرآني على أكل الطيبات “يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ”؟ لكننا تيممنا الخبيث من الطيب، وتركنا ما سماه الله (جنات) “وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً مُبَارَكًا فَأَنْبَتْنَا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ” لنختار ما عبثت به يد الإنسان وأفسدت به الميزان الذي ضمنته لنا الأرض وما يخرج منها “وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْزُونٍ”.
أما عن شوارعنا ومدننا، فقد برع الإنسان في إيجاد أساليب لتدمير بيئته، فتنوعت صور التلوث وتضاعفت مخاطرها على الصحة. وقد كشفت دراسة حديثة لمنظمة الصحة العالمية عن أن التلوث البيئي يعد السبب الرئيسي لثلث وفيات الأطفال دون سن الخامسة والبالغ عددها تسعة ملايين حالة على مستوى العالم سنوياً. وأرجع البيان 88% من حالات الوفاة لتلوث المياه وبيئة العيش!

 

وأصبح الثلوث الضوضائي يحيط بنا من كل مكان، سواء في الشارع أو في الأماكن العامة، بل ودخل بيوتنا ممثلاً بالأجهزة الكهربائية التي لا نستطيع الحياة بدونها كالمكنسة الكهربائية والخلاط والغسالة ووحدات تكييف الهواء، ليصل إلينا ونحن نيام. بمعنى آخر فإن هذا النوع من التلوث البيئي أصبح يعد أخطر أنواع التلوثات البيئية بسبب انتشاره الواسع ومخاطره التي يجهلها الكثيرون.

 

وأضافت لنا أساليب الحياة المعاصرة تقنيات لم نعد نستطيع الحياة بدونها، فمن الإنترنت إلى التلفاز والهاتف المحمول. ووفقاً لإحصائيات اليونيسكو يقضي الطالب العربي بسن الثامنة عشرة 22 ألف ساعة أمام التلفاز مقارنة بـ14 ألف ساعة في قاعات الدروس، وفي دراسة حديثة لشركة “Booz and Co.” مع شركة الإنترنت “Google” عن استخدام الإنترنت والهواتف الذكية في تسع دول عربية، كان من نتائجها أن 40% من الشباب يستخدمون الإنترنت على الأقل خمس ساعات يومياً، بل إن 80% من الشباب يكون أول عمل يقومون به عند قيامهم من النوم هو تفقد هواتفهم الذكية وهؤلاء يعتبرون فقدان هواتفهم من المصائب الكبرى التي قد تحل عليهم.

لقد تركنا القراءة التي هي أحد فروض ديننا ووقعنا في أسر كل ما هو جديد بحسناته ومضاره، وبصرف النظر عن ترشيد استخدامه. ففي تقرير التنمية الثقافية الذي تصدره مؤسسة الفكر العربي في دورته العاشرة، بين أن متوسط قراءة الفرد الأوروبي يبلغ حوالى 200 ساعة سنوياً، بينما للفرد العربي لا يتعدى ست دقائق سنوياً وهو في تناقص، وهذه نسبة مخيفة بل وكارثية.

 

إن من أبرز صفات المنهج الرباني صفة التوازن والوسطية، وهي صفة فطرية تحقق سلامة السلوك البشري وسعادة الإنسان وأمنه الاجتماعي والاقتصادي والبيئي والصحي. والمنهج الإسلامي حرص على تحقيق التوازن هذا في كل جانب من جوانب حياة الانسان.. متوجاً هذا النهج الفطري الراشد بحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم “إن لبدنك عليك حقاً، وإن لنفسك عليك حقاً، وإن لأهلك عليك حقاً، وإن لربك عليك حقاً، فأعط كل ذي حق حقه”، فلا بد من توازن بين إشباعات العقل والروح والبدن.

 

وضمن تجربة رائدة نرجو أن تضع يديها على خطة علاجية تساهم في مواجهة طوفان أنماط الحياة الحديثة، سيعقد مؤتمر متخصص فريد من نوعه يناقش (تأثير أنماط الحياة الحديثة على الصحة) بحضور علماء عالميين في شهر مارس المقبل، نأمل أن يؤتي ثماره لنجدها واقعاً ينعكس على صحة الإنسان (الخليفة) الذي ائتمنه الله على عمارة الأرض، فما أحوجنا لمثل هذه المؤتمرات التي تناقش مشاكل حياتنا اليومية بدلاً من النظريات.

وللمزيد لمن أراد من القراء الاطلاع على التفاصيل ومتابعة مستجدات المؤتمر: www.healthandmodernization.com

 

 

 

 لقراءة المقالة من صحيفة الوطن الرجاء الضغظ على الرابط أدناه :

http://www.alwatan.com.sa/Articles/Detail.aspx?ArticleId=17493