هل نسينا من نحن؟ رسالة مفتوحة إلى كل طبيب وطبيبة

هناك في الأعماق تكمن قصة أو موقف أو صرخة فطرة طفل كان يرى الدنيا بعين حقيقتها لا كما زَيَّفها حب الدنيا وزينتها الأهواء. هناك في الأيام الماضية البعيدة ساعات كفاح ونضال وألم ومعاناة لم يكن لوقعها في القلب والفؤاد إلاَّ لذَّة كفاح الأشراف النبلاء الذين حملوا في أفئدتهم وعلى عاتقهم رسالة خدمة الإنسان ورفع معاناته والذود عن حقوقه، فلم يكن الألم والمعاناة عندهم إلا زيادة تعميق لمعنى رسالة رفع الألم ومعاناة الإنسان، ولم يكن للكفاح معنى إلا زيادة تغلغل معنى الصمود في جذور شجرة الفطرة التي حملها الفؤاد آنذاك.

 

هناك في أعماق كل طبيب وطبيبة قصة تروى ومن روح هذه القصة وما تبعها من كفاح ولد ونشأ وترعرع عملاق عظيم اسمه الطبيب الإنسان، لا أقول مَلَكُ عظيم وإنما أقول إنسان عظيم، فهو أثمن عند الخالق وأثقل في الميزان، وقد اختار فباع واشترى للرحمن ودفع الثمن سنوات طوالا من الكفاح والنضال والحرمان حتى يحقق غاية خلقه ويكون خليفة ربه في أرضه ويستحق سجود ملائكة الرحمن له.

 

وتمر الأيام سراعاً تلحقها الأشهر والسنون، وجاء اليوم الذي يرتدي فيه الطالب المكافح المعطف الأبيض، رمز الطهر والنقاء، وكيف ينسى أي طالب تلك اللحظة التي كان لكل طبيب وطبيبة بينه وبين النفس حديث وحوار ذو شجون وقد انتصر الإنسان العظيم الذي باع واشترى لله منذ اليوم الأول.

 

وجاء اليوم الذي يخرج فيه الطبيب الإنسان ليخدم الإنسانية، وتمر الأيام سراعاً ويعتاد الطبيب كونه طبيباً وتتبلد الأحاسيس كما هي حال البشر في كل شيء، ويعتاد أن يقصده الناس ويُحتاج إليه ولا يحتاج، وتبدأ المعركة الكبرى، معركة الحياة بصخبها وزينتها..

 

الكل يبيع ويشتري ويزايد على سلع الدنيا…لعب ولهو وتفاخر وتكاثر، موازين مقلوبة..

 

الغالي فيها رخيص.. والرخيص فيها غالي، يُخَوّن فيها الأمين .. ويُؤتَمن فيها الخائن، ويُصَدّق فيها الكاذب .. ويُكَذّب فيها الصادق، يُكرّم فيها الوضيع .. ويُهَان فيها الشريف، ويُقطع فيها لسان الحر الأبي بسيف حيائه .. ويُطاع فيها سيف النذل اللئيم خوفاً من نقمته واتقاءً لسخطه وإذعاناً لكبريائه، ولا تُؤخذ الحقوق إلاَّ بالسواعد..

 

وفي كل صفقة بيع وشراء يزيد من يزيد ولكن فيما في اليد من حطام الدنيا وتنقص بكل صفقة منها قيم الإنسان التي بها يثقل وزنه ويرتفع شأنه في ميزان الحق، ويجوع العملاق الذي في داخل كل إنسان عظيم..

 

وتمر السنون ومازال العملاق يخذل ويضعف ويذبل وقد جُوِّع كل هذه السنين حتى يمرض ويموت فلا يبقى من صورة ذلك الطبيب الإنسان إلاَّ اللحم والدم فوقها المعطف الأبيض وسماعة الطبيب ومشرط في اليد وخبرة في العلاج وما ملكت يداه من متاع الدنيا..

 

وبعد أن كان ذاك الطبيب العظيم الإنسان الحكيم الشاهد على أهله وقومه وأمته وعصره أصبح مضارباً ومزايداً مثل غيره فتقلص دوره في الحياة بل وهُمِّش من الحياة كلها..

 

وبعد أن كان الطبيب الإنسان حكيم المجتمع المدافع عن الإنسان وحقوقه وسلامته الجسدية والعقلية والروحية أصبح مُقدّم الخدمة الصحية مقابل المال، وأصبح الطبيب بعد موت العملاق الذي بداخله مثله مثل باقي الناس يخاف كما يخافون ويرضى بما به يرضون..

 

فخف وزنه وصار يباع ويُشترى كما يباع ويشترى كثيرون، ونسي أن الرزق في حالته خاصة لا ينقص أو يزداد بطلبه وإنما يُكتب للمرء بإذن خالقه على قدر عمله لطبيعته الذي يتعامل فيه مع خلق الرحمن في حين يتعامل الناس في مهنهم مع صنع الإنسان..

 

وحق لمن يتعامل مع أقدس ما في الأرض أن يكون تعامله مع المادة على قدر عظم شأن عمله وطبيعة هذا العمل وقربه من المسبب موزع الأرزاق حتى ينظر إليه خالقه بعين الرضا فيكون أهلاً أن يجري الله على يديه الشفاء.

 

هنالك في أعماق كل طبيب قصة تروى أو موقف يذكر أو صرخة فطرة طفل كان يرى الدنيا بعين فطرته التي ترى الأمور على حقيقتها التي خلقها الله بها لا كما زيفت في عيون الكبار بانتكاس فطرتهم وبما ران على قلوبهم من أهواء الدنيا وملذاتها.

 

انني انادي كل طبيب وطبيبة أن يغوصوا في أعماق أنفسهم ويبحثوا لعلهم يجدوا إنسانهم العظيم مازال فيه رمق من حياة وان كان مكبلاً بسلاسل الحاجات، فان لم يجدوه فلينصتوا جيداً لعل سمعهم يلاقي صدى صرخة فطرة الطفل الذي كان فيهم يوماً من الأيام!..

 

 

 لقراءة المقالة من صحيفة عكاظ الرجاء الضغط على الرابط أدناهعكاظ  

 http://www.okaz.com.sa/okaz/osf/20080506/Con20080506193016.htm