وداعاً أبانا محمد عبده يماني

يمر على هذه الدنيا أناس يصطفيهم الله، ويُجرى على أيديهم الخير والبركة والنماء .. ومثل هؤلاء لا يبكي عليهم أهل الأرض فقط، إنما يبكي عليهم معهم أهل السماء..

عرفتك يا والدنا الدكتور محمد عبده يماني – رحمة الله عليك – وأنا لم أتجاوز بعد السابعة من عمري .. قرابة أربعة عقود وأنا أراك وأسمعك وأختلط بك .. فرأيت فيك مالم أره في كثير من عباد الله المؤمنين..

رأيت فيك تواضعاً لا تغيره ولا تبدله المواقع والمناصب..

ورأيت فيك حباً للعلم يزداد يوماً بعد يوم، فرزقك الله به فتوحات في شتى العلوم من لدن عليم حكيم؛

رأيت فيك تقديراً وإجلالاً للعلماء، فأغدق الله عليك بهذا الإجلال تجليات منه سبحانه فضلا من جواد كريم؛

ورأيت فيك تجسيدا لمعنى كيف يجعل المؤمن من نفسه وقفاً لله تعالى، ووقفا لخدمة مجتمعه ولكل من يقصده في معونة أو مؤونة أو نصرة للحق أو معروف أو إصلاح بين الناس..

رأيت فيك أجمل وأصدق المواقف الإنسانية مصبوغة بالربانية، فكنت حقاً ذلك المعنى الصائب السديد، الذي يصحح الله به ألف معنى خاطئ منحرف عن سواء السبيل..

رأيت فيك المودة والرحمة تتجسد في أصدق معاني الحب لكل من حولك..

رأيت حباً لآل بيت رسول الله يملأ شغاف قلبك من حبك لرسول الله صلى الله عليه وسلم لا سمعة فيه ولا رياء..

رأيت فيك الصبر والمثابرة والإصرار .. والصدق والنزاهة والتجرد والإخلاص..
رأيت همّك أن تقضي حوائج الناس على كثرة قاصديك وطارقي بابك، فلا ترى ذلك إلا فضلاً من الله عليك، فلعمري ما ضاق صدرك يوما بهم، فقوى الله لثقل ما تحمل ظهرك، ولم يخففه عنك زيادة في ثوابك وأجرك .. فصرت تحمل على ظهرك حملاً ثقيلاً لا تبالي بثقله بل كل همك أن يكون في ذلك تخفيف عن الناس.

عشت يا والدنا بحق كمن يدرك حق الإدراك أننا في هذه الدنيا عابرو سبيل.. ولكنك تركت بها الأثر البالغ في نفوس من عرفوك، فدعنا نرثيك – بل نرثي الدنيا التي افتقدتك – بقول الرافعي رحمه الله في كتابه وحي القلم في مقاله “قلت لنفسي وقالت لي”: ( ليست دنياك يا صاحبي ما تجده من غيرك، بل ما تُوجده بنفسك، فإن لم تزد شيئاً على الدنيا كنت أنت زائداً على الدنيا، وإن لم تدعها أحسن مما وجدتها فقد وجدتها وما وجدتك، وفي نفسك أول حدود دنياك وآخر حدودها. وقد تكون دنيا بعض الناس حانوتاً صغيراً، ودنيا الآخر كالقرية الململمة، ودنيا بعضهم كالمدينة الكبيرة، أمّا دنيا العظيم فقارّة بأكملها، وإذا انفرد امتدّ في الدنيا فكان هو الدنيا)،

وإنا لنراك يا دكتور يماني هذا العظيم الذي أراد؛

ثم يقول الرافعي: (والقوّة يا صاحبي تغتذي بالتعب والمعاناة، فما عانيته اليوم حركة من جسمك، ألفيته غداً في جسمك قوة من قوى اللحم والدم. وساعة الراحة بعد أيام من التعب، هي في لذتها كأيام من الراحة بعد تعب ساعة. وما أشبه الحي في هذه الدنيا ووشك انقطاعه منها، بمن خُلق ليعيش ثلاثة أيام معدودة عليه ساعاتها ودقائقها وثوانيها، أفتراه يغفل فيقدّرها ثلاثة أعوام، ويذهب يُسرف فيها ضروباً من لّهوه ولعبه ومُجونه، إلاّ إذا كان أحمق أحمق الى نهاية الحمق؟ إتعب تعبك يا صاحبي، ففي الناس تعب مخلوق من عمله، فهو ليّن هيّن مسوّى تسوية، وفيهم تعب خالق عمله، فهو جبّار متمرد له القهر والغلبة. وأنت إنّما تكد لتسمو بروحك الى هموم الحقيقة العالية، وتسمو بجسمك الى مشقات الروح العظيمة فذلك يا صاحبي ليس تعباً في حفر الأرض، ولكنه تعب في حفر الكنز)،

وما نحسبك يا دكتور يماني إلا قد وجدت بتعبك في الدنيا هذا الكنز الذي ذكر؛
ثم يسترسل الرافعي قائلا: (إتعب يا صاحبي تعبك، فإن عناء الروح هو عمرها، فأعمالك عمرك الروحاني، كعمر الجسم للجسم، وأحد هذين عمر ما يعيش، والآخر عمر ما سيعيش)؛

وإنني على يقين يا دكتور يماني أن لك هذان العمران وفوقهما ما سيخلد الله به ذكرك في هذه الدنيا بعد رحيلك،
فلقد كنت كلما أراك أتذكر حديث رسول الله (الناس كإبل مائة لا تكاد تجد فيها راحلة)،

وقد كنت طوال عمرك تلك الراحلة النادرة الحمولة الصبورة..

ويقول الرسول الكريم في حديث رواه البيهقي عن ابن عمر: (من كان وصلة لأخيه المسلم إلى ذي سلطان في مبلغ بر أو تيسير عسير أعانه الله على إجازة الصراط يوم القيامة عند دحض الأقدام)،

وإننا يا أبانا الكريم نشهد أنك كنت تلك الوصلة طوال عمرك..

وفي الختام أذكر قول رسول الله: (إذا أراد الله بعبد خيرا استعمله قيل : كيف يستعمله يا رسول الله ؟ قال: يوفقه للعمل الصالح ثم يقبضه عليه)،

وقد كان .. وكانت آخر كلماتك كلمة حق ووصلة خير في مبلغ بر كتب الله نسال الله أن يكون قد كتب لك بها الشهادة..
وداعاً أبانا محمد عبده يماني .. ونرجو الله أن يكون موعدنا وإياك الجنة إن شاء الله..

عكاظ  لقراءة المقالة من صحيفة عكاظ الرجاء الضغط على الرابط أدناه

http://www.okaz.com.sa/new/issues/20101116/Con20101116383596.htm