الإدمان الجديد

تحدثنا في المقال السابق عن الإدمان الذي أصبح سمة من سمات العصر، والذي لم يعد يقتصر على لون واحد، وإنما تعددت صوره وأشكاله، واختلفت طرق تدميره للإنسان، فمنه ما يقتل سريعاً.. ومنه ما يقتل بطيئاً.. منه ما يقتل الجسد.. ومنه ما يقتل العقل أو الروح أو الزمن.. ومنه ما يقتلهم جميعاً. وعرفنا أنه مع اختلاف أشكال الإدمان في صورها، إلا أنها تتشابه في طريقة عملها في الدماغ.


باب الإدمان لم يغلق بما عرف منه سابقاً، فالأنواع الجديدة تظهر مع مستحدثات عصرية، وأحدث أنواع الإدمان هو ما ظهر حديثاً خلال العقدين الماضيين فقط وهو الإدمان على التلفاز والإنترنت والألعاب الإلكترونية، حيث أثبتت دراسة أميركية حديثة في جامعة بتسبيرج أن 6% من مستخدمي الإنترنت في العالم من عداد المدمنين، بل وأنشئت مستشفيات في أميركا لعلاج هذا النوع من الإدمان، أما الألعاب الإلكترونية فواحد من كل عشرة من اللاعبين يعدون من المدمنين بناء على تقدير المتخصصين في الصحة العقلية للألعاب الإلكترونية، وهذا ما دعمته الدراسات الإحصائية.


إن مدمن الإنترنت لا يكاد ينام وهو يقضي معظم إن لم يكن كل ساعات الليل في استخدام الإنترنت، مما يسبب له الإرهاق الشديد ويؤثر سلباً على عينيه ويصيبه بأمراض الظهر وفقرات الرقبة نتيجة كثرة الجلوس بوضع ثابت، كما أن هناك بعض الأضرار التي تصيب الأيدي من الاستخدام المفرط للهاتف الجوال، ثم الأضرار الأخرى مثل البدانة وما تسببه من أمراض مرافقة.


ومن المحزن في عالمنا العربي أن استخدام التكنولوجيا في منطقتنا يضاهي الغرب لكن فقط في وسائل التسلية والمتعة، أما في المؤسسات التعليمية فإنه يستخدم فقط بنسبة 3%، بينما يستخدم بمعدل 16% في دول العالم الأخرى.


وهناك نوع جديد من الإدمان في عصرنا الذي يحق أن يكون شعاره (أنا أتسوق فأنا موجود).. هناك خصائص تجعل التسوق صورة من صور الإدمان، منها شراء ما لا يحتاجه الإنسان لمجرد التسوق، ولاحتياج التسوق والشراء عند الضيق أو عند مواجهة ما يعكر صفو المزاج، والإحساس بالنشوة والفرح والسعادة عند الشراء، والتوتّر عندما لا يسع المدمن شراء شيء يحلو له أو لها.


ويقدر خبراء نسبة مدمني التسوق ب‍‍ـ10% من الرجال و20% من النساء، وهو من أصعب أنواع الإدمان تمييزاً لأن المدمن يستطيع إخفاءه وإيجاد التبريرات المنطقية لما يقوم به، وقد لا يدرك هو نفسه أنه مصاب بإدمان التسوق.


وأخيراً وليس آخرا الإدمان على الطعام، والذي هو أحد أهم العوامل التي جعلت نسبة السمنة تتضاعف منذ 1980 لتصل إلى 500 مليون عام 2008، 200 مليون رجل و300 مليون امرأة، وليصبح 10% من سكان الأرض يعانون من السمنة.


وإذا نظرنا إلى نسبة السمنة في العالم العربي نجدها مرتفعة جداً، حتى تصدرت بعض الدول قائمة أعلى نسبة سمنة في العالم مثل: الكويت والسعودية بنسبة من 30 إلى 40% من مجمل السكان، والمخيف في الأمر أنهما دولتان ما زال معظم مواطنيهما من شريحة الشباب والأطفال، فكيف سيصير حالهما بعد عقدين من الزمن عندما ترتفع نسبة المسنين؟
هناك صلة وثيقة بين السمنة والاكتئاب، فالمصابون بالسمنة يعانون من الاكتئاب ثلاثة أضعاف ذوي الوزن الطبيعي، وذلك نتيجة اهتزاز ثقتهم بأنفسهم، وكذلك مرضى الاكتئاب يعانون من السمنة بسبب التغيرات الفيزيولوجية في الهرمونات الناتجة عن الاكتئاب.
ما الذي يحدث؟ لماذا أصبح الإدمان بصوره المختلفة سمة هذا العصر؟


كل أنواع الإدمان وسائل هروب من الواقع لتغيير الحالة العقلية للإنسان طلباً للذة وهروباً من إحباط أو قلق.. إنه تعبير عن فراغ أو ضياع داخلي وعدم رضا عن الذات وعن دور الإنسان في الحياة.


ولكن لماذا لا يدمن بعض الناس على أي من صور الإدمان العديدة؟ ما الذي يجعلهم محصنين؟
قبل أن نجيب عن هذا السؤال فلنطرح سؤالاً آخر: ما الذي يبحث عنه الإنسان في الحياة؟ إنها السعادة.. كلنا نحب أن نكون سعداء! ولكن الله لم يجعل السعادة الحقيقية الدائمة في كثرة الأشياء، وإنما في التوازن الداخلي في الإنسان صاحب الرسالة والقضية، الذي وجد نفسه فوجد ربه وعرف دوره في الحياة من عرف نفسه عرف ربه“.


وبهذه المعرفة والتوازن الداخلي يفرز الدماغ كميات كبيرة من الدوبامين الطبيعي تغرق الدماغ فيمتلئ الإنسان نشوة وسعادة ورضا وسكينة وطمأنينة لا يعرفها أصحاب الأهواء الذين يلهثون وراء الأشياء لعلها تهبهم السعادة والهناء، لكنه سراب كلما وصلوا إليه تبلد الإحساس وتلاشت اللذة معه، فتابعوا البحث وراء غيرها من الأشياء واللذات، وكلها سراب وراء سراب.


وصف الله الجنة التي ضاعت من أبينا آدم في قوله “إنَّ لَكَ أَلاّ تَجُوعَ فِيهَا وَلا تَعْرَى وَأَنَّكَ لا تَظْمَأُ فِيهَا وَلا تَضْحَى”، أي أن الله يقيه الجوع والظمأ والحر والعراء. هذا فقط؟ نعم.. إنها الأساسيات، فالجنة والنعيم الحقيقي هما في توفير الأساسيات والتوازن الداخلي، لا في الكماليات وعالم المزيد والمزيد من الأشياء كما يصوّر لنا في عصر عالم الأشياء.
تقابلت معه قبل خمسة أعوام.. إنه الطبيب الكويتي، الذي ترك هو وزوجته حياة الرفاهية واستقر في أفريقيا، حيث قضى فيها ثلاثين عاماً يعلم ويداوي، فأنشأ أربع جامعات و850 مدرسة و204 مراكز إسلامية و5700 مسجد، وحفر 9500 بئر، ورعى 15000 يتيم، وأسلم على يديه أحد عشر مليون شخص.. إنه الدكتور عبدالرحمن السميط – رحمه الله -.
رأيت في عينيه سعادة وسكينة وطمأنينة لم أرها إلا في قليل من الناس، على الرغم مما كان يعانيه من خطر ومرض وتحديات وتهديدات.. قالت له زوجته يوماً: إذا كنا ونحنُ في الدنيا سُعداءَ هكذا، فكيفَ تكونُ السعادةُ في الجنةِ؟ إنها السعادة الحقيقية.. هكذا أرادها الله.. إنها سعادة العطاء.. سعادة لا تحتاج الأشياء ولا الإدمان على الأشياء، إنه الدوبامين الطبيعي الذي يغرق الدماغ فيشعر الإنسان بالسعادة والسكينة والطمأنينة والرضا والهناء.


إن أعظم ذنب يمكن أن يرتكبه الإنسان هو أن يعيش ويموت ولا يدري لم خلق ولا يدري لماذا كان يعيش.


يقول سيدنا علي رضي الله عنه:
دَواؤُكَ فيكَ وَما تَشعُرُ
وَدَاؤُكَ مِنكَ وَما تُبصِرُ
وتحسبُ أَنَّكَ جُرمٌ صَغير
وَفيكَ اِنطَوى العالَمُ الأَكبَرُ
وأَنتَ الكِتابُ المُبينُ الَّذي
بِأَحرُفِهِ يَظهَرُ المُضَمَرُ
فلا حاجَة لَكَ في خارِجٍ
يُخبر عنك بما سطرُ

 

 

 

 لقراءة المقالة من صحيفة الوطن الرجاء الضغظ على الرابط أدناه :

http://www.alwatan.com.sa/Articles/Detail.aspx?ArticleId=17493