طريق التكبر

أم الشقاوات ومنبع المهلكات، آفة خطيرة تعمي البصيرة فيصبح الإنسان بها أبعد ما يكون عن الحقيقة، حرَّمها الله في كتابه، فهي صفة لا تليق بعباده، وطبع على قلوب أصحابها وصرفهم عن آياته، وحرم من في قلبه ذرة منها من دخول جناته..
الكبر والتكبر والغطرسة والتعاظم والغرور.. كلمات تحمل معاني متقاربة من آثار العجب من عقل غلب عليه الجهل والنقص، وقلب ضعف فيه الإيمان، فلا البصر يرى ما يراه الأصحاء من الناس، ولا البصيرة ترى الحقائق وراء الأشياء
.
ولكن لماذا يصاب الناس بالغرور؟ قد تبدأ القصة على نحو مثل هذا، فلان من الناس يحاول أن يحظى باهتمام بعض الأصدقاء الذين يحترمهم ويقدرهم، ولكنه كلما زاد من المحاولة زاد فشلاً وبعداً عنهم وازدادوا نفوراً منه، مما أدى إلى جرح مشاعره وتبخيسه لذاته. وليعالج ذاته المجروحة بدأ على المستوى اللاواعي في عقله الباطن (حاله حال الملايين من أمثاله) بممارسة التكبر والغرور على أناس آخرين ممن يراهم أقل منه حظاً ليجلب الاهتمام إليه، وبذلك يستعيد الإحساس بشيء من ذاته المبخسة
.


إن الشخص المتكبر هو الذي يفتقد الحب والاحترام والتقدير لذاته، أما صاحب الذات الصحيحة المعافاة السليمة فيكون متواضعاً لأنه على وفاق مع ذاته، لا يحتاج لأن يقول للعالم من هو، فهو راض مطمئن مسرور بصمت وهدوء وسكينة أن يكون هو كما هو على سجيته وطبيعته دون تصنع أو تمثيل
.


وللإصابة بمرض الغرور والتكبر عناصر ومكونات متشابهة
:


1- تبدأ بتجربة سيئة في مرحلة مبكرة من العمر، كالرفض والانتقاد اللاذع المهين من ذوي الأهمية في حياة الطفل أو المراهق كالوالدين أو الإخوة والأصدقاء
.


2- تؤدي الخطوة السابقة إلى تكوين فكرة خاطئة عن النفس والحياة والآخرين، وليصبح المتكبر معتمداً في تقييمه لذاته على نظرة الآخرين له
.


3- يتكون لدى المتكبر خوف مستمر عميق وراسخ من أن يراه الناس كما هو على حقيقته، أن يروا ضعفه أو نقصه وعيوبه لما لذلك من عواقب كارثية على إحساسه بقيمته وتقييمه لذاته من خلال نظرة الناس إليه
.
4- تتكون لدى المتكبر استراتيجية عقيمة للتكيف والتأقلم مع هذا الخوف ولحماية ذاته الهشة المبخسة في نظره بالتلاعب بنظرة الناس إليه وتضخيم الإيجابيات أو اصطناعها وتلفيقها للاختفاء وراءها
.


5- تتكون شخصية جديدة يختبئ المتكبر وراءها.. شخصية قد تمارس الغرور بطريقة مستترة خفية ماكرة لتصبح مقبولة اجتماعياً وليصل المستمع تلقائياً إلى النتيجة النهائية المبتغاة
.


ومثال لذلك حديث المتكبر عن قصص ومواقف حقيقية بطريقة غير مباشرة ليؤكد بالأدلة أنه مميز ومتميز واستثنائي ورائع ومدهش. فتجد هذا المتكبر المغرور يقحم في المحادثة أسماء أناس مهمين دون حاجة سياق الحديث أو الحوار لذلك، ومن علاماته كذلك اعتقاده بأن لديه الإجابة عن كل سؤال. المتكبر تجده كثيراً ما يهاجم منافسين له، بل وينسف كل نجاحاتهم وجهودهم ومساعيهم. كما أنه كثير اللوم للآخرين قليل اللوم لنفسه والاعتراف بالخطأ والاعتذار عنه
. يقاطع الحوار، فهو في الحقيقة لا يستمع إليك، وتحس أثناء الحديث معه أنه ليس معك وكأن عينيه تبحثان عن شيء آخر أو شخص آخر، لعله يكون أكثر نفعاً له من الحديث معك، وذلك على خلاف المتواضع الواثق من نفسه الذي يشعرك بأنك أهم إنسان في حياته، فهو يتحدث إليك بكليته وبعينيه وجوارحه وعقله وقلبه.


المتكبر أقل ذكاء وحكمة وتعقلاً من المتواضع
.


في دراسة أجريت في

(University Imaging Research Center) ونشرت في مجلة
(journal NeuroImage) في فبراير 2011 قام الباحثون بدراسة إجابات عشرين شخصاً على أسئلة توضح كيف يقارنون أنفسهم بقرنائهم في بعض الخصال الإيجابية، مثل: هل لديهم ذوق رفيع ولباقة؟ وهل هم ناضجون ومتواضعون؟ هل هم محبوبون وجديرون بهذا الحب؟ وكذلك في بعض الخصال السيئة مثل: هل نظرتهم للحياة مادية؟ وهل هم غير جديرين بالثقة وضيقو الأفق واحتمالية وقوعهم في الأخطاء كبيرة؟


وأثناء إجاباتهم عن هذه الأسئلة قام الباحثون بتصوير أدمغة المشاركين بجهاز الرنين المغناطيسي الوظيفي فوجدوا أن الأشخاص الذين ينظرون إلى أنفسهم بطريقة وردية إلى أقصى حد استخدموا الفص الأمامي من الدماغ أو الناصية أقل من أقرانهم، علماً بأن الفص الأمامي هو المسؤول عن المنطق والتخطيط وصنع القرارات وحل المعضلات، بمعنى آخر فإن الأشخاص الذين ينظرون إلى أنفسهم دائماً بمنظار الحسن والرضا والإطراء ويرون أنفسهم أفضل من أقرانهم ولا يرون عيوبهم ونقصهم، فإنهم يستخدمون الفص الأمامي من الدماغ أقل من أقرانهم الذين يرون أنفسهم بنظرة أكثر واقعية وموضوعية ومحاسبة للنفس
.


تقول الباحثة ودكتورة علم النفس جنيفير بير: على قدر استعمال الفص الأمامي من الدماغ على قدر موضوعيتك وواقعيتك ونظرتك لنفسك وتقييمك لذاتك وللعالم من حولك. أي بمعنى آخر: على قدر تفعيل الفص الأمامي (الناصية) تكون نسبة تواضعك، فالتواضع ذكاء وعلم وحكمة، أما التكبر فهو غباء وجهل وحماقة
.


إنه التكبر الذي تجسد في قول قارون (إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَىٰ عِلْمٍ عِندِي) فخسف الله به وبملكه الأرض. وهو التكبر الذي حال دون إسلام الوليد بن المغيرة والد الصحابي الجليل خالد بن الوليد أثرى قادة قريش والملقب بوحيد مكة، لأن قبائل قريش كانت تكسو الكعبة عاماً، وهو وحده يكسوها عاماً، بعدما سمع الوليد بن المغيرة القرآن الكريم من رسول الله صلى الله عليه وسلم عاد يقول: لقد سمعت من محمد آنفاً كلاماً ما هو من كلام الإنس ولا من كلام الجن وإن له لحلاوة وإن عليه لطلاوة وإن أعلاه مثمر وأسفله مغدق وإنه ليعلو ولا يعلى عليه
.


وما حال بينه وبين الإيمان إلا الاستكبار (ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ
). إنه الكبر الذي قال فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم “لا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ مَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ مِنْ كِبْرٍ”. أما التواضع فهو الصفة المحمودة التي تدل على نفس واثقة طاهرة، وهو وسط بين طرفين كبرٌ ومذلة. قال الرسول الكريم: “طوبى لمن تواضع في غير مسكنة”. وهو الذي عرفه الفضيل بقوله: “أن تخضع للحق وتنقاد له وتقبله من كل من تسمعه منه“.


عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم
: يقول الله تبارك تعالى: “من تواضع لي هكذا وجعل يزيد باطن كفه إلى الأرض وأدناها رفعه هكذا وجعل باطن كفه إلى السماء ورفعها نحو السماء”. وقوله صلى الله عليه وسلم: “من تواضع لله درجة رفعه الله حتى يجعله في عليين“.


إن التواضع ثقة وإيمان، ولذلك كان كمال التواضع في المرء حال النصر والعلم والجاه والمال والسلطان لوجود دواعي الفخر، وهنا يكون التواضع دليل كمال الثقة وصدق الإيمان وشكر للرازق الرحمن، وكان هذا حال معلم الإنسانية خصوصاً في حال النصر، فدخل مكة مطأطئ الرأس تواضعاً لله
.


يقول مصطفى صادق الرافعي: “إن اللين في القوة الرائعة أقوى من القوة نفسها، لأنه يظهر لك موضع الرحمة فيها، والتواضع في الجمال أحسن من الجمال لأنه ينفي الغرور عنه، وكل شيء من القوة لا مكان فيه لشيء من الرحمة فهو مما وضع الله على الناس من قوانين الهلاك
“.


وسنتحدث في مقال قادم إن شاء الله عن بعض الدراسات التي تحدثت عن سلوكيات كل من المتواضعين والمتكبرين، وسنحاول أن نجيب عن سؤال: كيف يُعلم التواضع، وكيف تعلمه الصحابة رضوان الله عليهم من الرسول صلى الله عليه وسلم
.

 

 

 

 لقراءة المقالة من صحيفة الوطن الرجاء الضغظ على الرابط أدناه :

http://www.alwatan.com.sa/Articles/Detail.aspx?ArticleId=24346