“داود وجالوت”

نزل المقاتل الضخم الجبار إلى ساحة المعركة وتحدى أن ينازله أحد من جيش المؤمنين، فلم يجرؤ أحد إلا راع شاب في مقتبل عمره أخلص النية وتوجه إليه بكل ثقة وعزيمة إيمانية، وبسرعة وخفة أخرج حجره من جرابه الجلدي، وأسكنه مقلاعه وطوفه في الهواء بضع مرات وسمى الله وأحسن التصويب، فأصاب عدوه وعدو الله في رأسه فأسقطه صريعاً.. “وقتل داود جالوت“.


قصة تحمل رمزية مهمة، وهي انتصار الخير والعدل وإن كان ضعيفاً على الشر والظلم وإن كان قوياً، ولكن هل كان داود عليه السلام عند دخوله المعركة الطرف الأضعف أم الأقوى عدة وعتاداً واستعداداً؟


كانت الحروب آنذاك تدار بثلاثة أنواع من المقاتلين، الأول سلاح الفرسان وهم رجال مسلحون يمتطون الأحصنة، والثاني جنود مشاة يحملون أسلحة ثقيلة ودروعاً وسيوفاً، وأما النوع الثالث فهم الرماة وهم ما يعادلون اليوم سلاح المدفعية، ويعدّ المقلاع في يد المتمرس الماهر سلاحاً من أفتك الأسلحة آنذاك وأدقها في إصابة الهدف، فهو يفتك من على بعد مئتي متر.
وفي المعارك تتوازن القوى بين الفرسان والمشاة والرماة، فالمشاة هدف سهل للرماة نظراً لبطئهم لما يحملون من أسلحة ثقيلة، ولكن الفرسان هدف صعب للرماة لسرعة تحركهم، وهم الذين يحمون المشاة من الرماة.
وقد قام أخصائيون في السلاح بدراسة لقوة الحجر المنطلق من مقلاع بافتراض حجر يشبه الجسم الذي كان يستخدم آنذاك ومقلاع مشابه، فوجدوا أن الحجر سيصل إلى هدفه على بعد 35 متراً بعد ثانية ونصف الثانية وبسرعة 122 كم/الساعة، وهذه سرعة كافية ليخترق الحجر أي جمجمة لحظة ارتطامه بها ويقتل على الفور وإن كان الهدف رأس عملاق مثل جالوت.


أي بمعنى آخر أن نبي الله داود كان يدرك نقاط ضعفه ومصدر قوته، وكذلك كان يدرك جيداً قوة خصمه ونقطة ضعفه، وأخذ بأسباب التمكين التي أمر الله بها فلم ينزل إلى المعركة تواكلاً بذريعة الإيمان، وإنما نزل توكلاً بإيمان أن الأخذ بالأسباب هو عبادة واتباع لأمر خالق العباد.


لقد رفض نبي الله داود أن يقترب من عدو الله جالوت ويقاتله بسلاحه الذي اختاره، وهو السيف والدرع، وإنما قتله بالسلاح الذي تمرس عليه داود طوال حياته حتى أصبح ماهراً محترفاً به، وبذلك كان داود عليه السلام متفوقاً عسكرياً ويمتلك تقنية متقدمة بمعايير ذلك الزمان جعلت جالوت بكل قوته وجبروته ضعيفاً عاجزاً وهدفاً سهلاً أمام نبي الله داود عليه السلام.


إن هذا ما أراد أن يوضحه الكاتب المبدع مالكوم جلادويل في كتابه الأخير (الضعفاء والمهمشون وفن مقاتلة العمالقة)، حيث يؤكد أن قراءتنا الخاطئة جعلتنا نغفل عن دروس هامة في هذه القصة العظيمة.


يتمحور الكتاب حول مفهوم نقطة القوة، وهي الخاصية التي يفترض أنها السبب الرئيس الذي نبني عليه توقعاتنا، ويمكن أن تكون هذه النقطة ذاتها السبب كذلك في الهزيمة.


يتحدث الكاتب في كتابه عن الشجاعة والمبادرة ممن يتوقع منهم أنهم ضعفاء ومغلوبون على أمرهم، ولكنهم أثبتوا أنهم قادرون على صنع المعجزات، ويسوق الأمثلة تلو الأمثلة ليثبت أن ما أثبته في كتبه السابقة أن الإنسان قادر على قلب الموازين متى آمن بنفسه وقضيته وأخذ بالأسباب وتعامل مع الأحداث من منطلق القدرة لا العجز.
ومتى قرر الإنسان العادي مواجهة عملاق أياً كان شكل هذا العملاق في حياته، فإنه قادر على التغلب عليه، كل شيء يصارع الإنسان في حياته مهما كان ضخماً وصعباً في نظر الآخرين، فإن الخالق وضع في الإنسان قدرة كامنة لكسر القواعد التي نعتقد أن الحياة تسير بها لا محالة، في حين أن نواميس الحياة ليست كذلك أبداً.
فالدخول في منافسة مع خصم أقوى بكثير، بحيث إن نسبة نجاحك المتوقعة تكون ضئيلة قد تكون الدافع الكبير للفوز وهزيمة خصمك، السر يكمن في تخطي نقطة ضعفك وتحويلها إلى نقطة قوة. وقد سرد الكاتب في كتابه قصصاً تظهر لنا كيف أن ما يمكن أن نراه إعاقة، يمكن أن يكون سبباً لنجاح عكس المتوقع. بل إن تحليل الحروب التي خاضتها البشرية خلال المئتي عام الماضية يبين أن الدول العملاقة، وهي الدول التي تتفوق بنسبة لا تقل عن عشر مرات على أعدائها سواء في القوة العسكرية أو عدد السكان، انتصرت فقط في 71% من تلك الحروب على الدول الضعيفة، بينما كان من البديهي والمفترض أن تنتصر أي دولة قوية على أي دولة ضعيفة.


يقول جلادويل (أنت لا تتمنى أن يولد طفلك ولديه صعوبات قراءة، ولكن يمكن أن تكون صعوبات القراءة هذه هي الدافع لعمل أشياء عظيمة). ويضرب مثلاً بـ(محام) يدعى (ديفيد بويس) ترافع ضد العملاقين مايكروسوفت وآي بي إم وانتصر عليهما، وسبب فوزه المستمر ضد خصومه أنه كان يعاني من صعوبة القراءة، فصعوبة القراءة لديه أدت إلى تطوير صفات تعويضية أخرى لديه مثل سرعة البديهة والحفظ، فأصبحا سلاحين جبارين أمام خصومه.
كل يوم يولد العديد من الأشخاص المعاقين أو المصابين بأمراض نفسية، ولكن هناك مجموعة منهم يرفضون الاستسلام وينجحون عن طريق تحويل ضعفهم إلى قوة، والمبهر أن كثيراً منهم استطاعوا التحول إلى عباقرة والقيام بما لا يقدر عليه الكثير من الأصحاء.


لقد أجمع المؤرخون أن أينشتاين ونيوتن كليهما كانا يعانيان صفات توحدية.


وتوماس أديسون كان يعاني صمما جزئيا نتيجة الضربات التي كان يتلقاها وهو صغير، وطرد من المدرسة بسبب صممه ودرسته أمه في البيت، وكان يقول إن هذا الصمم الجزئي لهو نعمة، لأن الضوضاء الخارجية لا تستطيع أن تشوش أفكاري، وكان يعمل 18 ساعة في اليوم، وقد اخترع في حياته 1093 اختراعاً بما فيها المصباح وآلة عرض الصوت ومسجل الصوت والهاتف.


بيتهوفين قضى 25 عاماً لا يسمع، واستطاع خلال هذه السنوات أن ينتج أفضل أعماله الموسيقية دون أن يسمعها.
هيلين كيلير الصمّاء البكماء العمياء التي تحدت كل هذا فتعلمت الكلام والخطابة والقراءة والكتابة بلغات عدة وحصلت على شهادة الدكتوراه وكتبت ثمانية عشر كتاباً. وقصة جين دومينيك، وهو صحفي وكاتب ورئيس تحرير فرنسي مشهور، أصيب عام 1995 بجلطة كبيرة في القلب فدخل في غيبوبة لمدة 20 يوماً استيقظ بعدها بمرض عصبي نادر (Locked-in Syndrome) (متلازمة المنحبس) فأصبح مشلولاً شللاً كاملاً، في حين أنه في كامل قواه العقلية ولا يستطيع أن يحرك إلا جفن عينه اليسرى، ورغم ذلك استطاع تأليف كتاب (جرس الغوص والفراشة) عن طريق إعطاء إشارة بجفنه الأيسر عندما يقرأ الحرف الصحيح عليه، وبذلك ألف الكتاب كله في عقله وكتبه حرفاً حرفاً على مدى عامين، وتوفي بعد يومين من نشر كتابه.


وفي مقال قادم إن شاء الله سنعرض لمزيد من الأمثلة الواقعية التي تؤكد على حقيقة أنه يمكن تحويل نقاط الضعف إلى نقاط قوة، بل إن من استطاعوا ذلك، تحولوا ليس إلى مجرد أشخاص ناجحين، بل إلى عباقرة.

 

 

 

 لقراءة المقالة من صحيفة الوطن الرجاء الضغظ على الرابط أدناه :

http://www.alwatan.com.sa/Articles/Detail.aspx?ArticleId=24159