سنن التمكين

استعرضنا في مقال سابق قصة قرآنية تحمل رمزية مهمة، وهي انتصار الخير والعدل وإن كان ضعيفاً على الشر والظلم وإن كان قوياً، وهي قصة نبي الله داوود – عليه السلام – وقتاله مع جالوت. وحاولنا النظر من أكثر من زاوية لمسألة نقاط الضعف والقوة في الإنسان، وطرحنا سؤالاً كان جديراً بحل إشكالية القوة والضعف، وهو: هل كان داود عليه السلام عند دخوله المعركة مع جالوت الطرف الأضعف أم الأقوى عدة وعتاداً واستعدادا؟


ورأينا أن نبي الله داود كان يدرك نقاط ضعفه ومصدر قوته، وكذلك كان يدرك جيداً قوة خصمه ونقطة ضعفه، وأخذ بأسباب التمكين التي أمر الله بها، فلم ينزل المعركة تواكلاً بذريعة الإيمان وإنما نزل توكلاً بإيمان أن الأخذ بالأسباب هو عبادة واتباع لأمر خالق العباد.


لقد رفض نبي الله داود أن يقترب من عدو الله جالوت ويقاتله بسلاحه الذي اختاره، وهو السيف والدرع، وإنما قتله بالسلاح الذي تمرس عليه داود طوال حياته حتى أصبح ماهراً محترفاً به، وبذلك كان داود – عليه السلام – متفوقاً عسكرياً، ويمتلك تقنية متقدمة بمعايير ذلك الزمان جعلت جالوت بكل قوته وجبروته ضعيفاً عاجزاً وهدفاً سهلاً أمام نبي الله داود عليه السلام.


وقد خرجنا بحقيقة أنه يمكن تحويل نقاط الضعف إلى نقاط قوة، بل إن من استطاعوا ذلك تحولوا ليس إلى مجرد أشخاص ناجحين، بل إلى عباقرة، وكان من أبرز الأمثلة الواقعية على ذلك، هيلين كيلير الصمّاء البكماء العمياء التي تحدت كل هذا فتعلمت الكلام والخطابة والقراءة والكتابة بلغات عدة وحصلت على شهادة الدكتوراه وكتبت ثمانية عشر كتاباً.


وقصة جين دومينيك وهو صحفي وكاتب ورئيس تحرير فرنسي مشهور. أصيب 1995 بجلطة كبيرة في القلب فدخل في غيبوبة لمدة 20 يوماً استيقظ بعدها بمرض عصبي نادر (Locked-in Syndrome) (متلازمة المنحبس)، فأصبح مشلولاً شللاً كاملاً، في حين أنه في كامل قواه العقلية ولا يستطيع أن يحرك إلا جفن عينه اليسرى، وبالرغم من ذلك استطاع تأليف كتاب (جرس الغوص والفراشة) عن طريق إعطاء إشارة بجفنه الأيسر عندما يقرأ الحرف الصحيح عليه وبذلك ألف الكتاب كله في عقله وكتبه حرفاً حرفاً على مدى عامين وتوفي بعد يومين من نشر كتابه.


وقد أوضح الكاتب المبدع مالكوم جلادويل في كتابه الأخير (الضعفاء والمهمشون وفن مقاتلة العمالقة)، أن قراءتنا الخاطئة جعلتنا نغفل عن دروس مهمة في القصة العظيمة لداود وجالوت.


وقد تمحور الكتاب حول مفهوم نقطة القوة، وهي الخاصية التي يفترض أنها السبب الرئيسي الذي نبني عليه توقعاتنا، ويمكن أن تكون هذه النقطة ذاتها السبب كذلك في الهزيمة.


يتحدث الكاتب في كتابه عن الشجاعة والمبادرة ممن يتوقع منهم أنهم ضعفاء ومغلوبون على أمرهم، ولكنهم أثبتوا أنهم قادرون على صنع المعجزات، ويسوق الأمثلة تلو الأمثلة ليثبت أن ما أثبته في كتبه السابقة أن الإنسان قادر على قلب الموازين متى آمن بنفسه وقضيته وأخذ بالأسباب وتعامل مع الأحداث من منطلق القدرة لا العجز.


ومتى قرر الإنسان العادي مواجهة عملاق أياً كان شكل هذا العملاق في حياته، فإنه قادر على التغلب عليه، كل شيء يصارع الإنسان في حياته مهما كان ضخماً وصعباً في نظر الآخرين، فإن الخالق وضع في الإنسان قدرة كامنة لكسر القواعد التي نعتقد أن الحياة تسير بها لا محالة، في حين أن نواميس الحياة ليست كذلك أبداً.


وتؤكد نماذج حياتية واقعية عديدة على صواب هذه النظرية، حيث يضاف للأمثلة السابقة.. كرستي براون الذي أصيب بالشلل الدماغي ولم يستطع التحرك لأعوام أو أن يتكلم، واعتبر متخلفاً عقلياً، ولكن والدته استمرت في التحدث معه وتعليمه، وفجأة في يوم من الأيام خطف طبشورة من أخته بقدمه اليسرى وبدأ يخط بها ويتواصل مع أهله ليصبح من أفضل الكتّاب والشعراء والرسامين في أيرلندا، ويموت وهو في التاسعة والأربعين من عمره عام 1981.


مصطفى صادق الرافعي الذي توفي سنة 1937 كان قد أصيب في سمعه بعد إصابته بالتيفود وهو طفل، وفي الثلاثين من عمره كانت حاسة السمع قد تعطلت لديه تماماً وأصيب بالصمم، ولم تكن إعاقته مانعاً من أن يحقق شهرة أدبية واسعة.. حيث تصدى للكتابة والتأليف حتى صارت له مدرسة أدبية تعرف باسمه في الأدب العربي. ويعد الرافعي من الأدباء أصحاب الروح الإسلامية الخالصة الذين خدموا الإسلام بأدبهم وشعرهم، ولا يزال إلى اليوم قبلة للأدباء، ويعد كتابه (وحي القلم) علامة فارقة في الأدب العربي المعاصر.
أبو العلاء المعري الذي ولد سنة 363 هـ، وتوفي سنة 449 هـ، فقد بصره في الرابعة عشرة من عمره ليضيف إلى عزلته جداراً جديداً، بعد يتمه وفقده أباه في السادسة من عمره، وقد اعتزل الناس طويلاً، ولم يمنعه ذلك من الإبداع والتأليف، أطلق عليه (رهين المحبسين)، محبسه الاختياري في داره، ومحبسه الإجباري بضياع بصره. كان أعجوبة عصره وإلى الآن في البلاغة والبيان وعرف بأنه (حكيم الشعراء وشاعر الحكماء)، يقول “أنا أحمد اللّه على العمى كما يحمده غيري على البصر”.. ترك العديد من المؤلفات الأدبية ذات الطابع الفلسفي والفكري.


قرر صبي يبلغ من العمر عشر سنوات تعلم الجودو بالرغم من أنه فقد ذراعه اليسرى في حادث سيارة، وبدأ الصبي الدروس مع مدرب ياباني خبير. كان أداء الصبي حسناً إلا أنه لم يستطع أن يفهم لماذا بعد ثلاثة أشهر من التدريب لم يعلمه المدرب سوى حركة واحدة فقط..


أخيراً سأل الصبي المدرب: لماذا لا أتعلم حركات أخرى؟ فأجابه: هذه الحركة الوحيدة التي تحتاجها دائماً وأبداً. لم يفهم الصبي ولكن كان يؤمن بمدربه فاستمر في التدريب وبعد أشهر أشرك المدرب الصبي بالبطولة الأولى له مما أدهش الصبي فوزه بسهولة في أولى المباراتين، وكانت الثالثة أصعب ولكن انتصر فيها.


أما المسابقة النهائية فكان المنافس أكبر وأقوى وأكثر خبرة منه، وبدا أن الصبي سوف يخسر وكاد الحكم أن يوقف المباراة خوفاً على الصبي ولكن المدرب أصر على الاستمرار، وبعد فترة ارتكب الخصم خطأ واستغنى عن وضعه الدفاعي فاستخدم الصبي حركته الوحيدة وفاز بالبطولة.


وفي طريق العودة استجمع الصبي شجاعته وسأل مدربه: كيف فزت بالبطولة بحركة واحدة فقط وبيد واحدة فقط؟ أجابه المدرب لقد فزت لسببين، الأول لقد أتقنت واحدة من أصعب الحركات في رياضة الجودو على الإطلاق فامتلكت سلاحاً قوياً جباراً، وأما السبب الثاني فإن الحركة الدفاعية المعروفة الوحيدة لتلك الحركة هو أن يقوم الخصم بالإمساك والسيطرة على ذراعك اليسرى.


حقاً ليس هناك مفهوم ثابت جامد محدد للقوة والضعف، بل إن القوة والضعف مفهومان نسبيان، وقد يكون في الضعف سر القوة، وفي القوة نقطة الضعف. هكذا أرادها الخالق ليكشف لنا عن القوة الحقيقية التي لا ترى بالعين وتختبئ هناك في أعماق الإنسان في إرادته وعقله وروحه.


إنها قصة داود وجالوت تتنكر لنا بشتى الصور والأشكال والألوان.. تتكرر عبر العصور والأزمان لتظهر لنا بديع خلق الرحمن للإنسان.

 

 

 

 لقراءة المقالة من صحيفة الوطن الرجاء الضغظ على الرابط أدناه :

http://www.alwatan.com.sa/Articles/Detail.aspx?ArticleId=24252