البسملة.. بيان توصيفك الوظيفي في الأرض

من أخطر ما يمكن أن نُبتلى به هو أن نفقد القدرة على قراءة ما يريد الله منا أن نقرأ ونفهم ونعي من كتابه المنزل، فتتبلد معاني الكلمات وتنقلب لتصبح أشبه ما تكون بالطلاسم والألغاز.


وهناك من المفكرين من حباهم الله القدرة على أن يزيلوا هذا الصدأ والتكلس الذي أصاب المعاني، ليعيدوا للكلمة حياتها بإيقاظ معانيها التي فيها، لتدعونا أن نحقق غاية وهدف تنزيلها على نبينا قرآنا يتلى علينا.


ومن هؤلاء المفكرين الدكتور أحمد خيري العمري في جميع كتاباته ومؤلفاته.. واليوم رحلتنا مع (البسملة فاتحة الكتاب) من سلسلة مجموعته ( كيمياء الصلاة).


إن الصلاة عماد الدين لا تقبل بدون الفاتحة (فلا صلاة لمن لا فاتحة له)، وتبدأ الفاتحة بالبسملة (بسم الله الرحمن الرحيم)، نقرؤها مع كل ركعة في كل صلاة إلى أن نفارق الحياة.. فماذا يريد الله لنا أن نفهم من (بسم الله الرحمن الرحيم)؟


إن البسملة هي توصيفك الوظيفي، هي إعلان وظيفتك على وجه هذه الأرض (بسم الله)، يعني أنني أمثل الله في كل ما أقوم به على وجه هذه الأرض كخليفته عليها، ولكني أبقى (خليفة) له سبحانه مجرد (نائب) عنه سبحانه لأؤدي وظيفة محددة. وبإعلان أنني خليفته وأعمل باسمه هو أقصى درجات التشريف لي، وسأظل مقيدا بهذا التوصيف الوظيفي.. أنني أعمل باسمه سبحانه لا باسم أحد غيره.


وهذا التخويل بأنك تعمل باسمه لا باسمك الشخصي أو اسم أي شخص آخر لا بد أن يبث فيك القوة والثقة والإيجابية، فهو سندك ومن خوّلك وأمرك أن تعمل باسمه. ولكن هذا التخويل مقيد ومشروط باسمين من أسمائه سبحانه وتعالى.. باسمين فقط من أسمائه الحسنى.. اسمان فقط ارتبطا بهذا التخويل (بسم الله الرحمن الرحيم).. نعم (الرحمن الرحيم).


لن تجد في القرآن الكريم كله (بسم الله القوي العزيز) أو( بسم الله العلي الحكيم) أو( بسم الله الحي القيوم) أو( بسم الله السميع العليم) أو أيا من أسمائه الحسنى الأخرى. أي أنك مخول أن تمثل الله وتعمل باسمه فقط في إطار (الرحمن الرحيم)، وأي استخدام لاسمه يخرج عن دائرة وإطار (الرحمن الرحيم) سيكون خارجا عن التخويل الذي كلفك الله به.


نبدأ باسمه سبحانه (الرحمن).. وعندما نعود للفعل الثلاثي نجد الكلمة (رحِم)، والرحمن هي صيغة مبالغة على وزن فعلان، و(أل) تفيد المبالغة، فالرحمن هي الحد الأقصى من الرحمة، بل إن الله لم يكتب على نفسه إلا الرحمة: (كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لاَ رَيْبَ فِيهِ) سورة الأنعام/ 12.


والرحمن هو الاسم الوحيد الذي ذكر منفردا في القرآن باستثناء اسم الجلالة، وكل أسمائه الأخرى سبحانه تأتي في سياق ثنائي (قوي عزيز) (غفور رحيم). وكأن هذا الاسم مستغنٍ ومكتفٍ عن أي وصف آخر أو أن يثنى باسم آخر، وإذا أردنا أن نفهم (الرحمن) فخير مصدر هو سورة كاملة جاءت مفسرة لاسمه (الرحمن) وسميت بسورة (الرحمن). بالرغم من أن لفظ (الرحمن) ذكر مرة واحدة في السورة في أول آية منها، ولم يذكر أي اسم آخر من أسماء الله الحسنى في السورة كلها، إذن سورة الرحمن مهيمن عليها اسم (الرحمن)، وكل ما ستقوله السورة هو وصف لاسمه سبحانه (الرحمن).


وبقراءة متعمقة لسورة الرحمن نجد أنها تقدم لنا ذلك العالم المتوازن جدا (الشمس والقمر بحسبان والنجم والشجر يسجدان).. متوازن في ظواهره الكونية، ولكنه كذلك يجب أن يكون متوازنا في علاقاته البشرية (والسماء رفعها ووضع الميزان ألا تطغوا في الميزان).


إنه الميزان الذي يسعى لتحقيق التوازن الدقيق بين كفتي المتناقضات، والذي يصنع عالماً بشريا متوازنا كما صنع الله لنا عالما كونيا متناهي الإتقان والاتزان.


وكما وصفه الدكتور أحمد خيري العمري فإن هذا التوازن المنشود الذي بدأت به سورة الرحمن باسمه (الرحمن)، جوهره ومنبعه الرحمة المنسوبة للرحمن، وهي ليست المبالغة في الرحمة بمعناها التقليدي كصورة الأم التي تعفو باستمرار عن أبنائها، وإنما هي الرحمة بمعنى (التوازن العميق الذي يُلغي أسباب الخطأ ويفقده مبرارته)، الرحمة بمعنى ألا يبغي شيء على شيء.


إنها رحمة لا تلغي العقوبة التي يجب أن تقع على من يستحقها، لأن جوهر هذه الرحمة هو التوازن والعدل (يُعرف المجرمون بسيماهم فيُؤخذ بالنواصي والأقدام).. إنهم المجرمون الذين تأصل الإجرام فيهم، وهذا هو العدل الذي لا يتنافى ولا يتعارض مع رحمة الرحمن، بل هو أصل جوهري فيه.


وهذا التوازن في قوله (الرحمن علم القرآن خلق الإنسان علمه البيان).. وعلم القرآن أي جعله علامة لنا تضيء لنا طريق الاختيار فهي البوصلة والمنارة. أما (البيان) فهو كل أدوات الفكر والفهم والإدراك والتقصي والتجريد التي أكرم الله بها الإنسان دون غيره من المخلوقات الدنيا.


وبالقرآن كعلامة وبوصلة تهدينا الطريق، وبالبيان كوسيلة فهم لهذا القرآن وإسقاطه على واقعنا وتفعيل دوره في عمارة الأرض.. نصل إلى العالم المتوازن في تعاملاتنا البشرية وخلافتنا له على هذه الأرض لتُخرج لنا اللؤلؤ والمرجان وخير الثمار كما أخرجها الله لنا في الكون والطبيعة التي وضعها الله بحسبان وأكمل وأدق وأعدل ميزان.


وأما كلمة (الرحيم) فهي التي تستطيع تقريب معناها للأذهان، وحاش لله وشتان بينها وبين صورة الأم العطوف الرحوم على أبنائها الصغار، وذلك لا يتعارض أو يتنافى مع ذكرنا معنى (الرحمن) بل يكملها، فالرحيم ألحقت بالرحمن لتكون بمثابة الفسحة والهامش الأوسع الذي يمكن أن يتم فيه التخفيف لمن لم يحقق التوازن المطلوب منه لضعف أو اضطرار أو جهل أو نسيان أو تغرير أو أسباب أخرى الله يعلمها ولا نعلمها، أي أنه أخذ بالشروط المخففة أو حكم استئناف أو فرصة أخرى لمحاولة تحقيق التوازن.


الآن أسقط كل هذه المعاني عليك أنت، يا من تستهل كل أعمالك بـ (بسم الله) يا من تقرؤها في كل فاتحة لتعلن أنك تمثله سبحانه وأنك خليفته وأنك مخول أن تمثله في إطار (الرحمن الرحيم).. أن تعدل كفتي الميزان بالقرآن والبيان وتلحق العدل بهامش فيه رحمة لعباد الله من الخطأ والضعف والنسيان، فيكون همك الشاغل (ألا تطغى في الميزان)، وأن تقيم عالما أرضيا موازيا لعالم الكون المتوازن.


إلى كل من أساء استعمال التخويل الذي خوله الله إياه فخرج عن الإطار المقيد باسمه سبحانه (الرحمن الرحيم) فيما ذكرنا من معاني العدل والرحمة فقد خان أمانة التخويل والاستخلاف وكذب على الله الذي لم يخوله إلا أن يعمل في إطار اسميه (الرحمن الرحيم).


ومن يتلفظ بالبسملة ويفعل ما يخالفها، فقد شهد على نفسه بالكذب (ويوم القيامة ترى الذين كذبوا على الله وجوههم مسودة أليس في جهنم مثوى للمتكبرين) سورة الزمر.

  لقراءة المقالة من صحيفة الوطن الرجاء الضغظ على الرابط أدناه :

http://www.alwatan.com.sa/Articles/Detail.aspx?ArticleId=13330