التوتر.. طاعون العصر

أصبح جزءاً من طبيعة حياة معظم سكان المعمورة نظراً لتسارع نمط حياة تغلب عليه الماديات، ويفتقر إلى ما يحقق للإنسان توازن احتياجات جسده وعقله وروحه. أطلقت عليه منظمة الصحة العالمية اسم “طاعون العصر”، وكذلك “وباء العصر”. إنه داء مستفحل، قاتل صامت، مرض خفي أصبح لا يفارق كثيراً من الناس، بل اعتادوا عليه ولم يدركوا عظيم خطره عليهم، فسلبهم صحتهم وسعادتهم، وأصبح القاتل الأول للإنسان حول العالم.
التّوتّر هو ردة فعل الإنسان واستجابته البدنية أو العقلية أو العاطفية تجاه حدث ما، فكل إنسان يحتاج إلى مستوى معين من التوتر والضغوط لأداء مهامه على الوجه الأمثل، ولكن المشكلة تكمن في حدة هذا التوتر واستجابة الشخص له، فهناك رد فعل إيجابي مُحفز يشحذ الحواس ويساعد على التركيز ويدفع إلى العمل والإنجاز، وعلى نقيضه فهناك استجابة سلبية ورد فعل سلبي ممرض، يجعلان الإنسان أقل كفاءة وقدرة على السيطرة ويؤثر سلباً على السلوك والصحة.

 

بينت الدراسات والإحصاءات أن التوتر يسهم في حدوث أو تفاقم 80% من الأمراض الخطيرة، وأن 70% من زيارة المرضى للأطباء يكون التوتر سببها أو واحداً من أسبابها الرئيسية. ومصادر التوتر في حياة الإنسان كثيرة جداً، منها المهنية والمادية.. ومنها العائلية والاجتماعية.. ومنها الصحية أو العاطفية أو الدراسية أو ما ينشأ نتيجة صراعات ونزاعات داخلية.

 

عندما يشعر الإنسان بأي نوع من التوتر أو الخطر، سواء كان ذلك خطراً حقيقياً أو توهمياً أو تخيلياً، ففي جزء من الثانية تُنشط سلسلة من التفاعلات تبدأ في غدة hypothalamus إلى الغدة الصنوبرية وأخيراً إلى الغدة الفوق كلوية التي تفرز عدة هورمونات، أهمها هورمونا التوتر (الأدرينالين) و(الكورتيزول). يعمل الأدرينالين على زيادة دقات القلب وسرعة التنفس ورفع معدل السكر في الدم وضغط الدم وزيادة تدفقه إلى العضلات والأطراف للمواجهة أو الهروب مما يراه العقل خطراً.

أما هورمون الكورتيزول فيعتبر هورمون التوتر الرئيسي على المدى الطويل، وهو كذلك يشترك مع هورمون الأدرينالين في زيادة معدلات السكر في الدم، وكلاهما يقومان بتثبيط أنشطة الجسم غير الهامة آنياً في مرحلة الخطر كالجهاز الهضمي والجهاز المناعي.
أعراض التوتر عديدة منها عضوية جسدية، ومنها نفسية عاطفية، ومنها ذهنية فكرية عقلية، ومنها سلوكية. أما الأعراض الجسدية، فمنها توتر في العضلات، خاصة الرقبة والظهر وآلام مزمنة وتسارع دقات القلب وتقلبات الجهاز الهضمي وأرق واختلال الرغبة الجنسية واضطراب الدورة الشهرية عند المرأة. وأما الأعراض النفسية العاطفية فمنها الضيق والإحساس بالوحدة والحزن والاكتئاب. وأما الأعراض الذهنية فتتمثل في عدم القدرة على التفكير أو التركيز وضعف الاستيعاب والنسيان. وأما الأعراض السلوكية فتتركز في اضطراب في الأكل والنوم بين إفراط وتفريط وسرعة الغضب وإهمال المسؤوليات والتسويف في العمل والإدمان بأشكاله المختلفة والحركات العصبية العفوية، مثل قضم الأظافر واختفاء الابتسامة وفقدان حس الفكاهة.

 

إن استمرار إفراز هورمونات التوتر بسبب التوتر المزمن يؤدي على المدى البعيد إلى أضرار في الدماغ، منها انكماش عصبونات الدماغ وتضاؤل قدرتها على استقبال وإرسال المعلومات، فقد وجد زيادة كبيرة في نوع من الإنزيمات المسؤول عن تدمير هذه العصبونات في الفص الأمامي من الدماغ، وقد نشرت نتائج هذا البحث في مجلة أكاديمية العلوم الطبيعية في ديسمبر 2011.

 

لقد أكدت الأبحاث أن هناك علاقة طردية بين التوتر المستمر المزمن وتقليص حجم Hippocampus وهي المنطقة المسؤولة عن تكوين خلايا ذاكرة جديدة وحفظ المعلومات والحقائق في الدماغ، بل وجد أن هناك تقلصاً في حجم Hippocampus بنسبة تصل إلى 26% من حجمها الطبيعي في الأطفال الذين مروا بضغوط نفسية شديدة نتيجة للعنف أو الحوادث المرعبة أو الحروب، مقارنة بغيرهم من الأصحاء الذين لم يمروا بمثل هذه الظروف القاسية.
وفي دراسة حديثة نشرت في مجلة العلوم العصبية عام 2013 بينت أن الإشارات الكهربائية المسؤولة عن إظهار الحقائق وتكوين الذاكرة قد ضعفت، في حين أن مناطق الدماغ المسؤولة عن العواطف قد نشطت. ولذلك فإن التوتر المزمن يدفع الدماغ إلى الاعتماد أكثر على المشاعر والعواطف لا على الحقائق والمعلومات. إذن فليس مجازاً قولنا للشخص المتوتر إنه لا يستطيع التفكير المنطقي “أنت الآن منفعل ولا تستطيع أن تفكر”، بل تؤكد الباحثة آمي أرنسلن من جامعة ييل أن التوتر المزمن يجعل الإنسان أكثر بدائية وأقل عقلانية، بل وأقل ذكاءً وأقل قدرة على الإبداع.

 

وقد قامت الباحثة جانيس جلاسير والباحث رونالد جلاسر من كلية الطب بجامعة ولاية أوهايو بدراسة على طلبة الطب ما بين عامي 1982 و1992، فوجدا أن الجهاز المناعي قد انخفض وضعف كل عام أثناء ثلاثة أيام من فترة الاختبار السنوي، وقد أظهرت العينات انخفاض خلايا الدفاع المناعية التي تقاوم الأمراض السرطانية والفيروسات، ولكن كلها تعود لمعدلاتها الطبيعية بعد انتهاء الاختبارات.
ومع حلول عام 2014 قامت الباحثة سوزان سيجرستورم من جامعة كنتاكي والباحث جورج ميلر من جامعة بريتش كولومبيا بمراجعة 300 دراسة تناولت علاقة التوتر بالصحة، فوجدا أن أي نوع من أنواع التوتر الذي يستمر أياما إلى شهور أو أعوام، كما هو الحال في ضغوط الحياة، أدى إلى انخفاض جميع أنواع خلايا الدفاع المناعية، وخلصا إلى أن التوتر المزمن والضغوط النفسية على المدى الطويل يدمران الجهاز المناعي لدى الإنسان، وبذلك يصبح الإنسان أكثر عرضة للإصابة بالالتهابات والأمراض البكتيرية والفيروسية، بل والسرطانية.
وفي دراسة حديثة على مئتي ألف موظف في أوروبا يعملون في وظائف تشعرهم بالتوتر المستمر ولا يستطيعون تغيير واقعهم أو تصحيحه نظراً لسلب صنع القرار منهم، وجد أن احتمالية إصابتهم بأول ذبحة صدرية في حياتهم ارتفعت بنسبة 23% من نظرائهم الذين لا يعانون مثلهم في وظائفهم.

 

كما أن علاقة التوتر بزيادة الوزن واضحة ومؤكدة وهذا ما يوضحه الدكتور فيليب هاجين من مركز مايو كلينيك، فقد وجد الباحثون أن هورمون الكورتيزول الذي يرتفع أثناء التوتر المزمن، يرتبط بمستقبلات في الدماغ مسؤولة عن الإحساس بالجوع، وكذلك فإن هورمون الكورتيزول يزيد كمية الدهون المخزنة في الجسم خاصة في منطقة البطن.
وهناك دراسات عديدة تؤكد علاقة التوتر بالإصابة بالصداع، نظراً للتغيرات التي تطرأ على الأوعية الدموية، نتيجة زيادة هورموني التوتر (الأدريناين) و(الكورتيزول)، وكذلك تفاقم أعراض ونوبات الربو الصدري وضعف الرغبة الجنسية، أما الجهاز الهضمي فتتخلله الأعصاب الدقيقة بكثرة حتى لقب بدماغ البطن أو الدماغ داخل البطن، وبذلك فإنه من أكثر المناطق حساسية وتأثيراً على أفكار الإنسان ومشاعره وعواطفه وضغوطه النفسية، ولذلك فإن أمراض الجهاز الهضمي تكثر مع التوتر، مثل القولون العصبي والقرحات مثل قرحة المعدة والقولون.

 

لا يقتصر تأثير التوتر المزمن على ذلك، بل وجد أنه يؤثر سلباً على جزء من الكروموزومات ويجعلها تهرم بسرعة أكبر، وبذلك يؤدي إلى الشيخوخة المبكرة. وتبين الإحصاءات والدراسات أن التوتر المزمن يزيد من سرعة الشيخوخة من 9 سنوات إلى 17 سنة، كما يزيد من الموت المبكر بنسبة 63%.
هذا الطوفان من الأمراض.. هل يمكن مواجهته أو العثور على دواء شاف له؟ هذا ما سنحاول الإجابة عنه في مقال قادم إن شاء الله.

 

 

 لقراءة المقالة من صحيفة الوطن الرجاء الضغظ على الرابط أدناه :

http://www.alwatan.com.sa/Articles/Detail.aspx?ArticleId=17493