الفساد…سرطان المجتمعات

أوجب الله على المؤمن أن ينظر نظرة المتأمل الدارس لسنن الله التي أجراها على خلقه وأن يتعمق فيها بآلة عقله ليصل بذلك إلى كمال إيمان قلبه بوحدانية خالقه.. (إن في خلق السموات الأرض واختلاف الليل والنهار لآيات لأولي الألباب).

فالسنن والأنماط الكونية التي تحكم الأمور بصورة قهرية ليس للإنسان فيها خيار – سواء كان ذلك في خلق الإنسان نفسه أو في خلق ما حوله من سموات وأرض أو ليل ونهار- لهي خير دليل معلم ومرشد مرب للإنسان نفسه فيما يجري عليه من سنن ربانية كونية تحكم أموره الاختيارية.

فالحكيم الخبير وضع لنا سننا وأودع فيها تماثلا نسبيا يشير إلى وحدانيته وينطق بحكمته … فسبحان الله الرب الخالق الواحد … ولذلك فإنك ترى العالم الحق لابد أن يهديه علمه – في أي من مجالات العلوم – الى حقائق الوحدانية وأن يقاد بعد ذلك بزمام الحكمة إلى سرادقات الخشية (إنما يخشى الله من عباده العلماء).

 

وعلى ذلك فالدراسة والفهم لسنن وقوانين الكون والتفكر والتبصر في خلق الإنسان نفسه، يمكن أن تقوده إلى استنباط أوثق معاني الحكمة واستخراج أسرار العلوم بمنطق فطري سليم ومنهج علمي قويم. (وفي أنفسكم أفلا تبصرون)
وأَحد أوجه التشابه أيضا ما قد نراه من تشابه عجيب بين النظم والقوانين التي تحكم الحياة الإجتماعية وتلك التي تحكم خلق الإنسان وتنظم صحته … بل وكثيرا ما يشبه الخلل الذي يصيب حياة المجتمعات بالأمراض الجسدية التي تصيب الإنسان … ألا ترى أن الرسول صلى الله عليه وسلم استعمل هذا التشابه لتقريب المعنى في مواقف عدة منها تشبيهه صلى الله عليه وسلم الأمة بالجسد الواحد الذي إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى..

وحديثا شبه المصلحون الفساد بصوره المختلفة بسرطان المجتمعات وهو تشبيه لو تعلمون دقيق:
فكما أن للسرطان مصدر رئيسي منه ينتشر الى أطراف الجسد ويتخلل الى أعضائه الحيوية فكذلك الفساد له بؤرة ومصدر رئيسي منه ينتشر ويسري الى باقي جسد المجتمع.

وكما أن السرطان يسرق الدم المُحمّل بالأكسجين والحياة ويستنزف الجسد ويسخر طاقاته ليضاعف من سرعة نمو السرطان وانتشاره فكذلك الفساد سرطان المجتمع يفعل.

 وكما أن السرطان لا يقضى عليه الإ إذا أزيل مصدره الرئيسي وأن أي محاولة لاستئصال مواقع الانتشار منه في أطراف الجسد وترك المصدر الرئيسي لن يقي الجسد كثيرا، فالمصدر الرئيسي للسرطان سيعوض ذلك بتسارع انتشار السرطان في مواقع جديدة من أجزاء الجسم، فكذلك الحال في محاولات استئصال سرطان المجتمعات (الفساد).

وكما أن معالجة الجسد من السرطان هي من أصعب وأشق المهام لما يحتاج إليه المعالج من دراسة مستفيضة لمناطق الإنتشار والأعضاء المتأثرة ومدى الإنتشار فيها والضرر المترتب عليها، ثم اتخاذ أنجح طرق العلاج مع الحرص على عدم استئصال أي عضو حيوي فعّال مع الحذر من ترك بؤر سرطانية صغيرة قد لا ترى بالعين، فكذلك الحال في معالجة سرطان المجتمعات (الفساد) فإنه يستوجب كل هذا بل وأكثر … وإنها حقاً لأصعب وأشق من معالجة سرطان الجسد، حيث أن الأيدي التي قد يوكل إليها علاج واستئصال سرطان المجتمع (الفساد)، هي يد تنتمي إلى الجسد المريض نفسه الذي انتشر فيه السرطان …!! فكيف لمرض أن يستأصل نفسه؟ إلا أن هناك مجتمعات في تاريخنا الحديث نجحت على مدى عقود من الزمن أن تستأصل الفساد من جسدها المريض، وقد اخترت لسلسة مقالاتي هذه عرض تجربة واقعية وقصة رائدة لدولة نجحت في محاربتها للفساد وشفيت منه على مدى ثلاثين عاماً، لتنتقل من أكثر دول العالم فسادا في أوائل الستينيات لتصبح واحدة من أقل دول العالم فساداً في منتصف التسعينيات، فهذه سنغافورةحسب الدراسة التي أعدتها هيئات مستقلة – تم تصنيفها من قبل منظمة الشفافية الدولية ضمن الدول الخمس الأقل فساداً في العالم، وتم تصنيفها من قبل مؤسسة الدراسات الإستشارية عن المخاطر السياسية والإقتصادية في تقريرها المعد عام 1996م بأنها الدولة الأنظف أو الأكثر خلوا من الفساد في آسيا.

يقول السيد شوسيرياك مدير دائرة التحقيق في الممارسات الفاسدة في سنغافورة في المؤتمر المنعقد بمدينة جيانق في الصين بعنوان تقرير التكامل ومحاربة الفساد في نوفمبر 2002م:
(إنه يتوجب علينا أن نوضح أن هذا التحول لم يأت مصادفة بل جاء نتيجة للقرار السياسي الذي اتخذته الحكومة بعد نيل الإستقلال لتغيير الإتجاهات السائدة إبان الحقبة الإستعمارية فقد وضعت الحكومة مشروع محاربة الفساد كجزء أساسي من برنامجها الوطني باعتبار أن ضبط الفساد والسيطرة عليه يعد أمراً ملازماً للحكومة الجيدة).

ويقول( تدرك الحكومة تماماً أنها لا يمكنها البقاء أو الاستمرار في السلطة مهما كانت أهدافها ونواياها حسنة مادام هناك فساد في أوساط منظمات ومؤسسات الدولة والخدمات المدنية التي تعول عليها الحكومة كثيراً في وضع النظم والسياسات الإدارية الفعالة لترجمة سياساتها الى أفعال ملموسة، لهذا فإن هذه الحكومة مصممة على اتخاذ كافة الخطوات والتدابير والإجراءات التشريعية والإدارية اللازمة للحد من فرص الفساد وتسهيل اكتشافه وإلحاق العقوبات الرادعة بكل من تسول له نفسه ممارسة الفساد).

ولقد سمعنا مراراً وتكراراً القرارات القوية المناهضة للفساد بما في ذلك القرار الذي أصدره السيد. لي كوان يو رئيس الوزراء في العام 1979 عندما أوضح ضرورة المحافظة على سنغافورة خالية من الفساد حين قال (عندما يصبح قادة الأمة أقل من أن يكونوا غير قابلين للرشوة والفساد وأقل عزماً على تحقيق المستويات القياسية العالية فعندئذ يضمحل وينهار تكامل الهيكل الإداري، وإننا لا ننظر لعملية السيطرة على الفساد على أنها مجرد قضية أخلاقية).

وقد أوضح السيد. لي كوان يو رئيس الوزراء مؤخرا في العام 1999م أن الموقف الصلب الذي اتخذته سنغافورة ضد الفساد ليس فضيلة وإنما حاجة.

لقد استطاعت سنغافورة على مدى ثلاثة عقود أن تنتقل من دولة ثالثة الى دولة أولى ومن أكثر الدول فساداً الى أنظف الدول وأكثرها خلوا من الفساد … فكيف نجحت سنغافورة في تحقيق ذلكوكيف شفيت من هذا السرطان القاتل؟
نعرض عليكم تجربة نجاح سنغافورة في المقال القادم إن شاء الله تعالى.

عكاظ  لقراءة المقالة من صحيفة عكاظ الرجاء الضغط على الرابط أدناه

http://www.okaz.com.sa/new/Issues/20100622/Con20100622357439.htm