عمل المرأة بين فقه الواقع وسد الذرائع

الإسلام دين حياة، جاء لينظم حياة الناس ويحقق مصالح البشرية وهو محكوم بنواميس الحياة وسننها المنضبطة التي تدركها العقول وأحكامه كلها تدور مع هذه العلل ولا تنفصل عنها … وبما أن الزمن يتحرك وحاجات الناس ومطالبهم تتغير باختلاف الظرف والمكان والزمان فان الأحكام الشرعية لابد أن تشتمل – في داخلها – على وسائل الاستجابة المرنة لتغير الظرف والمكان والزمان وهذا ما يؤهل الشريعة الإسلامية أن تكون صالحة لكل زمان ومكان.

وما شُرع الجمع بين النصوص والاجتهاد الاَّ لتحقيق هذا المبدأ , وكيف لا والعقل والنقل مصدرهما واحد كما قال أهل العلم “العقل والنقل مصدرهما واحد هو الخالق سبحانه وتعالى … فالعقل نعمة على الخلق والنقل رعاية لأولئك الخلق وهما – جميعاً – سبيلان صحيحان معتمدان في طلب المعرفة والاهتداء إلى المصلحة”.

ومن أكبر ما نعاني منه في أيامنا هذه هو فصل الدين عن الحياة وذلك بعزل الدين عن مجريات الحياة ومتغيرات المكان والزمان نتيجة فساد تأويل النصوص وقفل باب الاجتهاد الذي يحقق الإسقاط الصحيح للأحكام على الزمان والمكان، وانتشار فقه جوهرة التشدد وأساسه التوسع في سد الذرائع والإفراط الشديد في التحذير من كل فكر جديد وبذلك تم تجمد الإسلام وتجمد المسلمون عن الخوض في كثير من الأمور التي يحتاجها الناس في حياتهم فتعارض الدين مع فقه الواقع والمصالح والعقل.

وهناك عوامل عديدة أدت إلى انتشار مفهوم الغلو في سد الذرائع تحدث عنها علماء معاصرون كثيرون ومنهم الدكتور عبد الحليم محمد أبو شقه في موسوعته “تحرير المرأة في عصر الرسالة” وهي دراسة مُوَسَّعة عن المرأة جامعة لنصوص القرآن الكريم وصحيحي البخاري ومسلم وقد قضى الدكتور عبد الحليم أبو شقه ما يربو على خمس عشرة عاماً يجمع مادتها وينقحها ويصححها ويؤصلها وقد قدم له وزكى عمله اثنان من أجلاء العلماء المعاصرين وهم فضيلة الشيخ محمد الغزالي يرحمه الله وفضيلة الدكتور يوسف قرضاوي يحفظه الله.

يقول الشيخ محمد الغزالي “وددت لو أن هذا الكتاب ظهر من عدة قرون، وعرض قضية المرأة في المجتمع الإسلامي على هذا النحو الراشد، ذلك أن المسلمين انحرفوا عن تعاليم دينهم في معاملة النساء وشاعت بينهم روايات مظلمة وأحاديث إما موضوعة أو قريبة من الوضع انتهت بالمرأة المسلمة إلى الجهل الطامس والغفلة البعيدة عن الدين والدنيا معاً. وهذا الكتاب يعود بالمسلمين إلى سنة نبيهم صلى الله عليه وسلم دون تزيد ولا انتقاص، إنه كتاب وثائق، ومؤلفه عالم غيور على دينه رحب المعرفة متجرد لنصرة الحق كره الجدل الذي برع فيه أنصاف العلماء، وآثر مسلكاً قائماً على عرض المرويات كما استقاها من البخاري ومسلم، وقلما يعرض غير ما رواه الشيخان …”.

أما الدكتور يوسف قرضاوي فقد قدَّم الكتاب بثمانية عشر صفحة “ختمها بقولة” وفي الختام: أستطيع أن أذكر: أن هذا الكتاب – بما أحتوى من نصوص ثابتة ونَقُول صادقه، وشواهد ناطقة، وافهام نيرة، وتعليقات ناضجة – قد أضاف إلى المكتبة الإسلامية إضافة لها وزنها وأصالتها. وقد يخالف في بعض جزئيات الكتاب بعض الناس الذين تؤثر عليهم مواريثهم وبيئاتهم بحكم سنة الله في البشر. ولكن روح الكتاب وجوهره في بيان موقف الإسلام من المرأة من خلال النصوص المحكمات، ومن خلال الهدى العام في عصر النبوة لا يمكن أحداً أن يماري فيه”.

يقول العالم الدكتور عبد الحليم محمد أبو شقه في عوامل الغلو في سد الذريعة “إن عوامل الغلو بحاجة إلى دراسة متعمقة تتناول الأمر بالتحليل الدقيق، وذلك بعد الدراسة العلمية الشاملة لجميع جوانب الظاهرة … ولكن الأمر الذي نقطع بوجوده هو الغلو في تطبيق قاعدة سد الذريعة، وذلك بناءً على مجافاة التطبيق للشروط التي قررها الأصوليون لإعمال هذه القاعدة. واذا كان بعض علمائنا الفضلاء قد وقع في الغلو، فنحن لا نملك إلاَّ أن نقول – مع تقديرنا لعلمهم وفضلهم:- جل من لا يخطئ.

العامل الأول:- الغفلة عن شروط قاعدة سد الذريعة: ان هناك عدة شروط ينبغي مراعاتها عند حظر أي مباح سداً للذريعة وهذه الشروط هي:
1) ان يكون إفضاء الوسيلة المباحة للمفسدة غالباً لا نادراً. ويزيد الشاطبي أن الوسيلة التي يكون أداؤها للمفسدة كثيراً – أي لا نادراً ولا غالباً – لا تمنع. إذ ليس هنا إلا احتمال مجرد بين الوقوع وعدمه، ولا قرينة ترجح احد الجانبين على الآخر.
2) ان تكون مفسدتها أرجح من مصلحتها، وليس مجرد مفسدة مرجوحة.
3) ان لا يكون المنع بعد توفير الشرطين تحريماً قاطعاً، بل هو بين الكراهة والتحريم حسب درجة المفسدة.
4) إذا كانت الوسيلة تفضي إلى مفسدة ولكن مصلحتها أرجح من مفسدتها، فالشريعة لا تبيحها فحسب، بل قد تستحبها أو توجبها حسب درجة المصلحة.
ورغم وضوح هذه التقريرات من علماء الأصول، فان بعض الخلف غفل عنها وأسفرت هذه الغفلة عن غلو في سد ذريعة فتنة المرأة.

العامل الثاني:- سوء فهم معنى فتنة المرأة “وفي هذا تأصيل وتفصيل في الكتاب”.

العامل الثالث:- سوء الظن بالمرأة واستضعافها “وفي هذا تأصيل وتفصيل في الكتاب”.

العامل الرابع:- الغيرة المريضة “وفي هذا تأصيل وتفصيل في الكتاب”.

العامل الخامس:- دعوى فساد الزمان “وفي هذا تأصيل وتفصيل في الكتاب”.

العامل السادس:- مجموعة من الآيات والأحاديث والأخبار، آيات كريمة وأحاديث صحيحة أسيء تأويلها، وأحاديث ضعيفة أو موضوعة وأخبار ضعيفة “قد ورد في الكتاب نماذج عديدة وفصل فيها”. انتهى هذا الجزء من الكتاب.

فمن باب سد الذرائع يضيق كثيرون ببعض ممارسات المرأة ومنها العمل، فتمنع المرأة المُحَّجبة الملتزمة بأخلاق وآداب الشريعة الإسلامية الغراء من العمل كبائعة لسلعة تخص النساء “مثل الحلية والمجوهرات والملابس الداخلية” اذا كانت المشترية امرأة برفقة زوجها أو ولي أمرها. في حين نجد معارض متخصصة في بيع الملابس الداخلية النسائية فقط “ولا تبيع غير ذلك” نجد رجالاً يبيعون للنساء أكثر السلع خصوصية للمرأة وإحراجا لها وكسراً لحيائها، فتدخل المرأة وحدها. فيبادرها البائع الرجل ويقترب منها ليسألها عن حاجتها ومقاسها ويتناول الملابس الداخلية بين يدية ليريها للمرأة وفي هذا تعرية معنوية لها وقد كُشف له من جسدها ما أخفته بحجابها.

أليس من الأحرى والأولى أن تترك السلع ذات الخصوصية الأنثوية مثل المجوهرات والملابس الداخلية النسائية للمرأة بل ويستحسن أن ينخرطن في هذا المجال حفاظاً على المرأة المشترية المترددة على تلك الأسواق. وما هو ضرر أن تكون المرأة المشترية برفقة محارمها من زوج أو ولي أمر؟.. أو ليس هذا هو الأمر الطبيعي؟.. خاصة وأن البائعة ترتدي الحجاب الشرعي والمكان ممتلئ بزميلاتها البائعات.

بل أيهما أكثر حفاظاً على المرأة، امرأة متحجبة تبيع لأمرأة أخرى برفقة زوجها أو ولي أمرها أو رجل يبيع لامرأة “قد لا تكون ملتزمة بالزي الإسلامي” وقد لا تكون برفقة أي من محارمها؟!.

إننا مأمورون بإعمال العقل، النعمة التي أنعمها الله على الخلق خاصةً عند تغير الأحوال وتبدل الزمان ووجوب الاجتهاد وذلك هو السبيل الصحيح لطلب المعرفة والاهتداء إلى المصلحة وفهم مُراد المولى عز وجل من نصوص الشرع الحنيف؟!

 

عكاظ  لقراءة المقالة من صحيفة عكاظ الرجاء الضغط على الرابط أدناه

http://www.okaz.com.sa/new/Issues/20110528/Con20110528422698.htm