فلسفة العيد

أخذت أُقلّب عقلي وفؤادي أبحث عن ذلك المعنى للعيد الذي هو أوجب وأدعى أن يُذكر في يوم عيدنا هذا في عصرنا هذا، ليجسد حالنا وليكون بمثابة اليوم الذي تستعرض فيه الأمة جمال أرواحها وأعمالها وإنجازاتها وأنظمتها الاجتماعية، فلم أجد ما هو أصدق لساناً، وأدق وصفاً للمعنى الذي أنشد من كلمات خطتها يد الأديب المرهف ذي الضمير الحي في قلب الأمة الأستاذ مصطفى صادق الرافعي من كتابه “وحي القلم“.


يقول الرافعي: “ما أشد حاجتنا نحن المسلمين إلى أن نفهم أعيادنا فهماً جديداً، نتلقاها به ونأخذها من ناحيته، فتجيء أياماً سعيدة عاملة، تنبهُ فينا أوصافها القوية، وتُجدد نفوسنا بمعانيها، لا كما تجيء الآن كالحة عاطلة ممسوحة من المعنى، أكبر عملها تجديد الثياب، وتحديد الفراغ، وزيادةُ ابتسامة على النفاق..


فالعيد إنما هو المعنى الذي يكون في اليوم لا اليوم نفسه، وكما يفهم الناس هذا المعنى يتلقون هذا اليوم، وكان العيد في الإسلام هو عيد الفكرة العابدة، فأصبح عيد الفكرة العابثة، وكانت عبادة الفكرة جمْعَها الأمة في إرادة واحدة على حقيقة عملية، فأصبح عبث الفكرة جمعها الأمة على تقليد بغير حقيقة، له مظهر المنفعة وليس له معناها.


كان العيد إثبات الأمة وجودها الروحانيَّ في أجمل معانيه، فأصبح إثبات الأمة وجودها الحيوانيَّ في أكثر معانيه، وكان يوم استرواح من جدِّها، فعاد يوم استراحة الضعف من ذُلِّه، وكان يوم المبدأ فرجع يوم المادة!


ليس العيد إلا إشعار هذه الأمة بأنَّ فيها قوة تغيير الأيام، لا إشعارها بأنَّ الأيام تتغيرُ، وليس العيد للأمة إلاَّ يوماً تعرض فيه جمال نظامها الاجتماعي، فيكون يوم الشعور الواحد في نفوس الجميع، والكلمة الواحده في ألسنة الجميع، يوم الشعور بالقدرة على تغيير الأيام، لا القدرة على تغيير الثياب..


وليسَ العيدُ إلاَّ تعليم الأمة كيف تتسع روح الجوار وتمتدّ، حتى يرجع البلد العظيم وكأنه لأهلهِ دارٌ واحدةٌ يتحقق فيها الإخاء بمعناه العمليّ، وتظهر فضيلةُ الإخلاص مستعلنة للجميع، ويُهدي الناس بعضهم إلى بعض هدايا القلوب المُخلصة المحبة، وكأنَّما العيد هو إطلاق روح الأُسرة الواحدة في الأمة كلِّها.


وليس العيدُ إلا التقاء الكبار والصغار في معنى الفرح بالحياة الناجحة المتقدمة في طريقها، وترك الصغار يلقون دَرسهم الطبيعيَّ في حماسة الفرح والبهجة، ويعُلمون كبارهم كيف تُوضع المعاني في بعض الألفاظ التي فَرغتْ عندهم من معانيها، ويُبصرونهم كيف ينبغي أن تعمل الصفات الإنسانية في الجموع عمل الحليف لحليفه، لا عمل المُنابِذ لمُنابِذه، فالعيد يوم تسلط العنصر الحي على نفسية الشعب.


وليس العيد إلاَّ تعليم الأمة كيف توجِّهُ بقوتها حركة الزمن إلى معنى واحد كلما شاءت، فقد وضع لها الدين هذه القاعدة لتُخرج عليها الأمثلة، فتجعل للوطن عيدا ماليا اقتصادياً تبتسم فيه الدراهم بعضها إلى بعض، وتخترعُ للصناعة عيدها، وتوجد للعلم عيده، وتبتدع للفن مجالي زينته. هذه المعاني السياسية القوية هي التي من أجلها فُرض العيد ميراثاً دهرياً في الإسلام، ليستخرج أهلُ كلِّ زمنٍ من معاني زمنهم فيُضيفوا إلى المثال أمثلةً مما يُبدعه نشاطُ الأمة، ويحققه خيالُها، وتقتضيه مصالحُها”.

 انتهى


رحمك الله يا رافعي فكلماتك ما زالت بعد عقود وعقود مضت كأنما هي كلمات بالأمس كُتبت.

 

 

 لقراءة المقالة من صحيفة الوطن الرجاء الضغظ على الرابط أدناه :

http://www.alwatan.com.sa/Articles/Detail.aspx?ArticleId=23293