قمع السؤال.. قتل لعقل الإنسان وروحه

كانت المعجزات السماوية للأنبياء منذ طليعة الخلق وحتى ما قبل آخر الأنبياء سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم معجزات حسية لا تخاطب غير الحواس، تتحدى العقل فتهزمه وتقهره فيُذعن ويستسلم فيُسلم.. حيةٌ تسعى، يدٌ تخرج بيضاء من غير سوء.. عصاةٌ تشق البحر، نبيٌ يُحيي الموتى بإذن الله.. وشاءت الحكمة الإلهية أن تكون معجزة آخر الأنبياء من نوع آخر، فلم تكن تهدف لهزيمة العقل ليؤمن ويستسلم، وإنما سعت لتنهض بالعقل فيرى آيات ربه فيؤمن، فكانت المعجزة كما يعبر عنها الدكتور أحمد خيري العمري في كتابه (البوصلة القرآنية) أنها “همسة في الغار (اقرأ)”.. وكان الفرق كبيراً بينها وبين المعجزات التي سبقت الرسالة الخاتمة، التي اتصفت بالآنية، فالبحر الذي شقه عصا موسى عاد لطبيعته، والعصا اختفت، ومن أحياه عيسى عليه السلام بإذن ربه مات، هذه الآنية وصفة الحسية كان من الضروري أن تنتفيا في معجزة الرسالة الخاتمة لتكون خالدة متجددة عبر الزمان.

 

 

معجزة القرآن الذي بدأ بهمسة في الغار كانت شعاراً لحضارةٍ جديدةٍ وعقلٍ جديدٍ. كانت (اقرأ) أول فرض وأول أمر.. أما أهم أدواته فهي السؤال.. السؤال الذي هو هدية القرآن لأمة (اقرأ). الإيمان الأول بدأ بسؤال سيدنا إبراهيم “رب أَرِني كَيف تحيِي الْموتى” لتكون الإجابة الربانية “فَخذ أَربعة مّن الطّير فَصُرْهنّ إلَيك ثم اجعل علَى كل جبل منهن جزءاً ثُمَّ ادعهنّ يأتينك سعياً واعلَم أَن الله عزِيز حكيم”. لقد تضمنت الإجابة حثاً للعقل وتعليماً لطرق البحث لتكون النتيجة نابعةً من عقل إبراهيم بالمشاهدة والمراقبة والاستنتاج، وكذلك كان حوار إبراهيم مع قومه مستخدماً معول (السؤال) ليحطم به الأوثان الحقيقية التي تعشش في العقول “فَاسْأَلُوهُمْ إِن كَانُوا ينطقون فرجعوا إِلَى أَنفسهِم فَقالوا إِنكم أَنتم الظالمون”. وها هو “الفاروق” يقرب عبدالله بن عباس فيسأله صحابة رسول الله، وكانوا يحرصون أن يقرب أبناءهم إليه كما يقرب عبدالله بن عباس، فقالوا يا أمير المؤمنين لم لا تدعو أبناءنا؟ فبماذا أجابهم الفاروق؟ “إنه فتى الكهول، إن له لساناً سؤولاً وقلباً عقولاً”.

 

إن ما يهمنا في موضوع اليوم التأكيد على أن (السؤال) تأصل كأداة قرآنية في تفعيل مفهوم القراءة الشاملة للكون والخليقة والبشرية، فكانت النهضة لعقل الإنسان المسلم التي تمثلت في ابتكارات واختراعات وأبحاث، وعندما قُمع السؤال وحُجر العقل انحسرت حضارة الإنسان المسلم وانحدر إلى مصاف المتخلفين في مؤخرة ركب الحضارات، لتصبح أكثر المقولات انتشاراً أن السؤال من البدعة، وتأتي البقية.. “وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار”، ولا سبيل لإعادة هذا العقل الذي بنى الحضارة من دون الأداة الرئيسية لأمة (اقرأ)، ألا وهي (السؤال)، لكن كيف أصبحنا نتعامل اليوم مع السؤال؟

 

أكدت الدراسات والأبحاث أن الطفل يسأل في مرحلة ما قبل الدراسة بمعدل 100 سؤال في اليوم، لكنه في مرحلتي الابتدائية والمتوسطة يكف عن السؤال، وهذه هي نفس المرحلة التي يضعف فيها الحماس للسؤال والبحث والاستفسار، بل للحياة بشكل عام.

 

 

ما الذي يحدث في المدرسة؟ النظام المدرسي يقمع السؤال ويقتل روح التساؤل، لأننا في المدارس نكافئ على إجابة الأسئلة، لا على القدرة على طرح سؤال جيد، بل قد نعاقب أحيانا على كثرة السؤال، وهذا يؤدي إلى أزمة في الإبداع، بالرغم من أن القدرة على طرح الأسئلة الذكية المبدعة معيار أهم وأصدق للذكاء والفطنة من القدرة على حفظ الأجوبة الصحيحة الجاهزة.
بل يُعتقد أن الطفل الذي يفقد الشغف وحب الاستكشاف والسؤال، يفقد مع ذلك مستقبله، حيث إن إمكانياتنا العاطفية والاجتماعية والعقلية والمعرفية تتشكل وتتبلور من خلال نوعية وكمية التجارب والخبرات التي نمر بها في حياتنا، والأطفال الذين يفقدون حبهم للاستطلاع والاستكشاف والسؤال، من الصعب أن يصبحوا ملهمين أو متحمسين لأي شيء، مما يؤدي إلى أن يصبحوا أقل قراءة وأكثر صعوبة للتعلم وأقل قدرة على بناء صداقات وعلاقات مع الآخرين.

 

إن روح الفضول وحب البحث والاستكشاف والسؤال لها فوائد عظيمة للإنسان، فمن الناحية الصحية بينت دراسات عديدة منها دراسة نشرت في مجلة الصحة النفسية عام 2005 واستغرقت عامين لألف مشارك أن الأشخاص الذين يتمتعون بمستويات أعلى من الشغف وحب الاستكشاف والسؤال ارتبطوا بنسب أقل من احتمالات الإصابة بالأمراض المختلفة مثل ارتفاع ضغط الدم والسكري وغيرها. ومن الناحية العقلية خلص الباحثون في دراسة نشرت في مجلة علم النفس الاجتماعي عام 2002 إلى تحديد عالي الدقة يقرر أن الطفل الشغوف كثير السؤال يحقق نسبة أعلى في اختبارات الذكاء في مرحلة متقدمة من الطفولة والدراسة، وهناك دراسة أخرى على 1795 طفلاً في عمر 3 سنوات، وجدت أن الأطفال الشغوفين كثيري السؤال انتهى بهم الأمر في عمر 11 سنة بمعدل 12 نقطة أعلى في اختبار معدل الذكاء وقدرة أعلى على القراءة والتحليل والتفكير وحل المشاكل المعقدة، والذكاء بشكل عام.

 

أما من الناحية الاجتماعية، فقد وُجد أن الأطفال الشغوفين أنجح اجتماعياً وكذلك من الناحية النفسية والسعادة، ففي دراسة قامت بها مؤسسة جالوب على 130 ألف شخص في 130 دولة تمثل 95% من العالم، وُجد أن أحد أهم عوامل السعادة عبر عنها المشاركون في البحث بقولهم إنهم تعلموا شيئاً جديداً البارحة، معنى ذلك أن سعادتهم التي يشعرون بها اليوم هي انعكاس لشيء تعلموه.

 

حرمان الإنسان من حق السؤال جريمة في حقه، إنها إلغاء له وتحطيم لروحه المعنوية وتبخيس لذاته واستعباد لروحه التي خلقها الله حرة. إن (السؤال) جزءٌ أساسيٌ من خلق الإنسان مؤصلٌ في فطرته.. انظر إلى الطفل وهو يفكك لعبته إلى أجزاء ثم يحاول إعادتها بطرق مختلفة. نعم إن الفضول وحب الاستطلاع والاستكشاف والشغف للتعلم والمعرفة مزروعٌ متأصلٌ في صلب طبيعة الإنسان، ونحن بطبيعتنا نحاول فك شفرات الكون من حولنا من خلال فك أشياء إلى أجزاء وتحليلها ودراسة مكوناتها لاكتشاف الكون وفهم كيفية عمل الأشياء من حولنا “رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى”.. إنها الكيفية التي سألها أبو الأنبياء إبراهيم عليه السلام.

 

إن جذور كل أنواع المعرفة هي الشغف والفضول وحب الاستطلاع والسؤال من أجل معرفة ماذا خلف ما يُرى، الفهم العميق لغاية الوجود الإنساني. وليس هناك من شيء يحرر الإنسان أكثر من قدرته على تحدي الوضع الراهن الجامد والإيمان أنه من خلال البحث والتحليل والاستكشاف والفحص والسؤال يمكن أن نصل إلى عالم أفضل. إن قمع السؤال قمع لعقل الإنسان وقتل لروحه.

 

 

 

لقراءة المقالة من صحيفة الوطن الرجاء الضغظ على الرابط أدناه :

 

http://www.alwatan.com.sa/Articles/Detail.aspx?ArticleID=14000