معالم ومنهج تيار الوسطية

تحدثنا في مقالنا السابق بعنوان “الوسطية الجامعة في الإسلام” عن مفهوم الوسطية، وكيف أن سِمَةَ الوسطية هي من أخص ما تتجلى به الشريعة الإسلامية من سمات، وأنها تمثل الفطرة الإنسانية التي فطر الله الناس عليها، وأنها هي التي تؤهل الأمة الإسلامية للشرف العظيم، ألا وهو الشهادة على الناس أجمعين أمام رب العالمين “وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا”، مما يوجب علينا أن نتعمق في فهم الوسطية وأن نسعى إلى تحقيقها في أفكارنا وأقوالنا وأعمالنا لتُصبغ حياتنا بصِبغة الله التي أرادها لنا.

 

وضربنا أمثلة من تطبيقات الوسطية في ميادين شتى من الحياة في الاعتقاد والتصور، وفي التعبد والتنسك، وفي التكليف والتشريع، وفي الأخلاق والآداب والسلوكيات.

 

وأوضحنا الانحراف الذي أصاب الأمة في فهمها لروح هذا الدين الوسط، وبيّنا ما ترتب على ذلك من إخراجها عن تيار الوسطية، ثم أكدنا على الأهمية القصوى لإعادة الوسطية في حياة الأمة، حيث إنها تمثل طوق النجاة الذي يُخرجنا من التناقضات، وأنها تكوّن المعيار الصحيح لإسلامية مناهج الإصلاح.

 

هذه التناقضات التي عجزت القوانين الوضعية البشرية أن تجد لها حلولا، ووجدها الإسلام بوسطيته الجامعة مثل الجمع بين الروح والجسد، والآخرة والدنيا، والدين والعدالة، والمجموع والفرد، والثابت والمتغير، والقديم والحديث، والنقل والعقل، والتقليد والاجتهاد، والدين والعلم.. إلى آخر الثنائيات المتناقضة والتي كانت سنة رسول الله تصححها قولا وفعلا وتجسيدا لمنهاج الوسطية في الإسلام، هذه الوسطية التي ترفض الغلو “إن هذا الدين متين، فأوغلوا فيه برفق” رواه الإمام أحمد، وترفض العنف وترسّي مبدأ التيسير “إن الله لم يبعثني معنفا، ولكن بعثني ميسرا” رواه مسلم وأحمد، وإن الدين يسر “وإن دين الله يسر” رواه البخاري.
هذه الوسطية التي تجسدها لنا قصة الثلاثة الذين جاؤوا ليسألوا عن عبادة رسول الله فقال الأول: أما أنا فإني أصلي الليل أبدا وقال الآخر: وأنا أصوم الدهر أبدا ولا أفطر، وقال الثالث: وأنا أعتزل النساء فلا أتزوج أبدا. فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال “أنتم الذين قلتم كذا وكذا؟ أما والله إني أخشاكم لله وأتقاكم له، لكني أصوم وأفطر، وأصلي وأرقد، وأتزوج النساء، فمن رَغِبَ عن سنتي فليس مني”.

 

ومن أشمل ما قرأت في تحديد جملة الدعائم الفكرية التي بها يُعرَف تيار الوسطية ما جمعه الشيخ الدكتور القرضاوي والتي منها:
• تطبيق المفهوم الشمولي المتكامل للإسلام بوصفه عقيدة وشريعةَ وعلما وعملا وعبادة ومعاملة وثقافة وأخلاقا وحقا وقوة ودعوة ودولة ودينا ودنيا وحضارة وأمة وفهما للنصوص الجزئية في ضوء المقاصد العليا وتطبيقا لفقه الأولويات بفهم التكاليف والأعمال فهما متوازنا يضعها في مراتبها الشرعية وينزل كل تكليف منزلته وفق ما جاءت به النصوص.
•تأكيد الدعوة إلى تجديد “الفقه القرآني والنبوي” الذي يضم عدة ألوان من الفقه المنشود كفقه سنن الكون وفقه مقاصد الشرع وفقه المآلات وفقه الموازنات وفقه الاختلاف وفقه التغيير وفقه الواقع.
• تجديد الدين من داخله وإحياء مبدأ الاجتهاد الذي لا تحيا الشريعة إلا به، على أن يكون الاجتهاد من أهله وفي محله.
• الموازنة بين ثوابت الشرع ومتغيرات العصر والثبات في الأهداف والغايات والأصول والكليات والمرونة والتطور في الوسائل وفي الفروع والجزئيات.
• التيسير والتخفيف في الفقه والفتوى والتشديد في الأصول لا الفروع، فهذا التيسير لا يعني تبرير الواقع أو مجاراة الغرب أو إرضاء الحكام وتطوير مناهج الدعوة وتبني منهج التبشير في الدعوة.
• التدرج الحكيم في الدعوة والتعليم والإفتاء والتغيير وتأكيد الدعوة إلى المزج بين الروحانية والمادية، والربانية والإنسانية، والعقل والوجدان.
• احترام العقل والتفكير، والدعوة للنظر والتدبير، ومقاومة الجمود والتقليد.
• الدعوة إلى المبادئ والقيم الإنسانية والاجتماعية مثل: العدل والشورى والحرية والكرامة وحقوق الإنسان.
• إعطاء المرأة حقها ومكانتها وكرامتها، وتحريرها من رواسب عصور التخلف والتراجع الإسلامي، وغوائل الغزو الحضاري الغربي الذي أخرج المرأة من فطرتها ولم يراع أنوثتها.
• الإيمان بالتعددية العرقية والدينية واللغوية والثقافية والسياسية.
• العناية بعمارة الأرض وتحقيق التنمية المتكاملة، مادية وبشرية ورعاية البيئة بكل مكوناتها، والتعاون على تيسير المعيشة للناس وكل ما يشيع الجمال في الحياة واعتبار ذلك عبادة وجهادا في سبيل الله.
• الانتفاع بأفضل ما في تراثنا الرحب المتنوع من ضبط الفقهاء، وتأصيل الأصوليين، وحفظ المتحدثين، وعقلانية المتكلمين، وروحانية المتصوفين، وتجارب العلماء، وتأمل الحكماء، والتأكيد على أن هذا التراث غير معصوم وقابل للنقد والمناقشة.

 

بهذا المنهج الوسطي الجامع يحسم الإسلام التناقض بين الثنائيات التي تمزق المجتمعات والحضارات، ويتوصل بفهمه الصحيح إلى الحلول التي عجزت المناهج الإنسانية الوضعية أن تصل اليها. ويتم بذلك التوافق المنشود بين الروح والجسد، وبين الآخرة والدنيا، وتتم المواءمة بين متطلبات الدين والدولة والجماعة والفرد، ويحصل التمييز بين الثابت والمتغير والقديم والحديث، ويكون التوازن بين النقل والعقل والتقليد والاجتهاد والدين والعلم.

 

هذا هو منهاج الوسطية الجامعة، إنه هو الفطرة السليمة، وإنه هو صبغة الله التي صبغ بها أمة الإسلام المطبقة لهذا المنهاج.

 

لقراءة المقالة من صحيفة الوطن الرجاء الضغظ على الرابط أدناه

http://www.alwatan.com.sa/Articles/Detail.aspx?ArticleID=10005