ولنقل: هذا حجنا هذا العام

إن الله فرض الحج علينا مرة في العمر لحكمة إلهية، وقد يكون من حكمة ذلك محدودية المكان والزمان، فإذا افترضنا أن معدل الحجاج سنويا مليوني حاج، وسنوات العمر التي يستطيع فيها الإنسان القيام بهذا الركن ما بين سن العشرين والسبعين أي نحو خمسين سنة، وبعملية حسابية بسيطة نجد أنه باستمرار هذا المعدل لن يستطيع أن يحج سوى مئة مليون مسلم فقط خلال خمسين عاما، وإذا كان عدد المسلمين نحو ألف وخمسمئة مليون مسلم، وبفرض أن المسلمين لن يزيد عددهم خلال خمسين عاماً “وهذا غير صحيح أيضا، والغالب أنه سيتضاعف بإذن الله”، وإذا افترضنا أيضا أن المئة مليون الذين سيحجون خلال خمسين عاما ليس فيهم من حج أكثر من مرَّة واحدة “وهذا غير صحيح ومخالف للواقع، إذ إن مجموعة كبيرة من المسلمين يحجون عشرات المرَّات ومنهم من يحج كل عام”، لو افترضنا كل هذه الفرضيات لتبسيط الحساب، لوجدنا أن نسبة المسلمين الذين سيحجون خلال خمسين عاما تشكل أقل من 7% من مجمل المسلمين، أي بمعنى آخر أن 93% من المسلمين حول العالم لن يتمكنوا من أداء فريضة الحج – التي هي أحد أركان الإسلام الخمسة – طوال حياتهم.

 

أما إذا قمنا بالحساب الصحيح الدقيق، وأخذنا بعين الاعتبار ازدياد عدد المسلمين خلال خمسين عاما، وكذلك عدد المسلمين الذين يحجون مرَّات متعددة، فإن الصورة تصبح أسوأ من ذلك بكثير، ونسبة المسلمين الذين سيموتون دون أن يؤدوا فريضة الحج ستزيد عن 93%.

 

أليس الأولى أن نطبق حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم “والله لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه”.. كم من المسلمين الضعاف في أرجاء المعمورة يحلمون بحج بيت الله الحرام، ويَمنعهم العجز المادي عن القيام بهذا الركن العظيم. أليس الأولى بمن يحج كل عام أن يحتضن مسلما يتكفل بمصاريف حجه كاملة بِنِيَّة مساعدته للقيام بالحج فيكون له الأجر المضاعف؟

 

أجر مساعدة مسلم على تأدية حجة العمر، وأجر مماثل له بإذن الله، وأجر إيثاره أخيه على نفسه، ويكون لمخالفة هواه ثُقل في ميزان حسناته يضاف إلى ذلك، والله أعلم بما في قلوبكم.

أليس من الأنانية ألا نفكر في إخواننا وأخواتنا في أقطار المعمورة، الذين لا يستطيعون الحج ولا يقدرون على تكاليفه المادية؟

 أم هو انعكاس لمرض أخطر قد استحوذ على عقول وقلوب المسلمين؟

 

ليس هذا فحسب، بل إن الدولة المخولة بترتيب الحج كل عام قد وضعت قرارا بعدم إعطاء رخصة حج لمن حج بيت الله سابقا إلا بعد خمس سنوات من حجته الأولى، إلا إذا كانت الحجة لمرافقة محرم أو أن يكون الحاج رئيسا لبعثة أو طبيبا لها، وفي هذا مرونة كافية لأصحاب الحجة الواضحة، أما أن تحج كل عام على مدى عقود من الزمن ولا تفكر في إخوانك وأخواتك في مشارق الأرض ومغاربها، فهذا يحتاج إلى وقفة ومراجعة وتأمل وعمق تفكير في فقه الأولويات، وفيها إضافة لذلك مخالفة لولي الأمر.

 

أليس من حكم الحج وفوائده أن يأتي المسلمون من مشارق الأرض ومغاربها ليشهدوا منافع لهم؟ فمكة بمنزلة قلب الأمة الإسلامية والعالم كله التي يُضُخ إليها الدماء من أطراف متباعدة من جسد هذه الأمة العظيمة، ومن القلب يذهب إلى الرئتين لِيُنقَّى ويعود ثانية إلى أطراف جسد الأمة، ويضخ ثانية إلى أطراف جسد الأمة الإسلامية ليُعيد لها الحياة .. فأين نحن من هذه الحكمة.

 

ما الذي يقتضيه فقه الأولويات؟ وما هو الأولى لمن أكرمهم الله أن يعيشوا في هذه البلاد؟ أن يحجوا كل عام أو أن يتكفل كل واحد منهم بتكلفة حاج لم يكتب الله له الحج إلى بيت الله نظرا لظروفه المادية؟

 

إن كثيرا مما تعاني منه أمتنا الإسلامية يتمثل في البعد عن الفهم الصحيح لروح الدين والذي به شيدت أعظم حضارات الأرض.

 

 

ومن هذه المفاهيم الضائعة مفهوم تقديم المصلحة العامة المتعدية على مفهوم المصلحة الخاصة، ففيما صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: “من كان في حاجة أخيه كان الله في حاجته”، “والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه”، و”لأن يمشي أحدكم في حاجة أخيه خيرٌ له من أن يعتكف في مسجدي هذا”، كما أنه من الواجب ضبط موازين الأعمال بقاعدة الأسبقيات التي فهمها السلف وطبقوها خير تطبيق، فها هو عمر بن عبد العزيز يكتب له أحد عماله بأن يتصدق عليهم ليكسوا الكعبة فأجابهم بالنفي وقال “إني أردت أن أجعل هذا المال في أكباد جائعة، فذلك أولى من كسوة الكعبة”، وما فعله عبدالله بن المبارك، عندما خرج في حج نافلة فلقي امرأة تأكل من فتات الأرض، فسأل عن حالها فأجابت إنى أرملة أعول أيتاما، فأخرج ابن المبارك نفقة حجه وأصحابه ودفع بها إلى المرأة وقال جملة تنقش بماء الذهب “هذا حجنا هذا العام”.. لقد فهموا أن الفعل المتعدي بنفعه والمصلحة المتعدية ثوابها أعظم بكثير من مصلحة ونفع يقتصر أثره على فاعله.

 

فمتى نفقه مفهوم المنفعة المتعدية ونمارسها في حياتنا، فيضاعف الله لنا في أجرنا وننهض به في خير البلاد والعباد، فينفق كل واحد منا المال الذي كان سينفقه في حجته النافلة في أفضل مصلحة ومنفعة متعدية، كما قال العالم الجليل المجاهد عبدالله بن المبارك “هذا حجنا هذا العام”.

 

ليتنا نرى قريبا هذه الشعيرة العظيمة التي تكتمل بها أركان الإسلام معبرة بصدق عن روح الإسلام في الإيثار، وأن يحب المسلم لأخيه كما يحب لنفسه، وأن يضع نفسه مكان أخيه الذي يتمنى الحج ولا يستطيع أن يلبي نداءه لعجز مالي.

 

 

 

 لقراءة المقالة من صحيفة الوطن الرجاء الضغظ على الرابط أدناه :

http://www.alwatan.com.sa/Articles/Detail.aspx?ArticleId=17493